قد يبدو سؤالًا بسيطًا، ذلك الذي نتداوله دون أن نتوقف طويلًا عند دلالاته: لماذا تُحبّ بعض النساء أن يُنادين بأمهات أبنائهنّ، بينما تُصرّ أخريات على اسمهنّ المجرد، كما لو أنّ هذا الاسم هو الوطن الأخير الذي لا يقبل القسمة؟ سؤالٌ عابرٌ في ظاهره، لكنه يكشف عن أعمق ما فينا من حاجةٍ للهوية، وعن الطريقة التي نفاوض بها المجتمع على معنى وجودنا.
حين تختار امرأةٌ أن تُعرَّف بأنها “أم فلان”، فهي لا تفعل ذلك دائمًا بدافع العادة وحدها، بل لأنها ترى في هذا اللقب شرفًًا يردّ لها الاعتبار وسط عالمٍ ظلّ طويلًا يختصر حضورها في ظلّ رجل أو عائلة أو قبيلة. الأمومة هنا لا تكون مجرّد دورٍ بيولوجي، بل هويةٌ اجتماعيةٌ تمنحها شرعيةً خاصةً، وتؤكد أنها صارت تملك امتدادًا يردُّ عنها غبار النسيان في ثقافاتنا التي تتكئ على الحياء الجمعي، ظلت الكنية درعًا خفيًا يحمي الاسم الأول من التداول، كأنّ الاسم المجرد يظل سرًّا لا يُباح به إلا في دوائر الألفة القصوى، وهو من منظور علم الاجتماع شكلٌ من أشكال الامتزاج بالجماعة، إعلانٌ صامتٌ أن الفرد صار فرعًا من شجرةٍ أكبر، وأن المرأة تحولت إلى حلقةٍ متينةٍ في سلسلة الأنساب والذاكرة.
غير أن علم النفس يفتح بابًا آخر للتأمل. كثيراتٌ لا يخترن الكنية حبًّا فيها فحسب، بل يجدن فيها سندًا رمزيًا لحماية هشاشةٍ لم يعد الاسم المجرد وحده قادرًا على سترها. فبعض الأمهات يُنادين بأسماء أبنائهن لأن هذا النداء يرمم داخلهن شيئًا من شعورٍ بالأهمية والانتماء، شعورٍ يعوّض الوحدة أو يغطي خساراتٍ أخرى لا تُقال. في المقابل، هناك من النساء من تُعلن عن نفسها باسمها الذي خطّته أمها لها ذات يومٍ، كأنّها تقول للعالم: “لا أحتاج واسطةً لأُرى. اسمي وحده يكفيني.”
بين الموقفين لا حكم ولا مفاضلة. هناك امرأةٌ تجد في اسمها طمأنينةً واعترافًا بذاتها، وأخرى ترى في الأمومة هويتها التي تليق بها أكثر من أي لقب. كلاهما صادقٌ في اختياره. ففي النهاية، لا أحد يعيش الاسم بمعناه العميق غير صاحبته. وما يظنه البعض تفصيلًا لغويًا هو في حقيقته اتفاقٌ بين امرأةٍ وذاتها: هل أقدّم لكم أناي المجردة، أم أقدّم لكم ثمري الذي يدلّ عليّ؟
إنّ مناداة امرأةٍ باسمها أو كنيتها ليست مجرد عادة اجتماعية، بل هي تفصيلٌ يكشف طبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة، بين الخصوصي والعام، بين الرغبة في أن نظلّ لأنفسنا، والحاجة لأن نعبر من خلال من نحب. وهذا ما يجعل من هذا السؤال البسيط مرآةً صغيرةً نرى فيها أنفسنا، ونقرأ من خلالها كيف يختبئ كلُّ إنسانٍ خلف اسمه، أو خلف اسمٍ آخر اختار أن يكون علامةً عليه.
في نهاية كل حكاية، يظل الاسم أو الكنية همسةً تقول سرًّا: هنا امرأةٌ تعرف من تكون، تختار أن تُرى بالطريقة التي تشبهها، ولو كانت تلك الطريقة لا تُشبه إلا هي وحدها.