هذا المقال حول مفهوم الكبيرة ومرتكبها؛ بين المعتزلة وجمهور الأمة الإسلامية؛ حيث إن الحكم على مرتكب الكبيرة، من المسائل القديمة الحديثة، وفهمه على غير وجهه له أبعاد خطيرة على طلاب العلم والعلماء جميعًا، وقد فطن العلماء والمتكلمون إلى هذا فأَوْلُوه عِنَايَتهمْ بالتحقيق والتدقيق ، وقد ظلّ الخلاف قائمًا حول الحكم على مرتكب الكبيرة، هل هو في منزلة بين منزلتين كما تقوله “المعتزلة”، أم أنه غير كافر، ولا يخلد في النار؛ وأنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وحكمه في الآخرة تحت المشيئة الإلهية، إن شاء عفا عنه بمنه وكرمه، وإن شاء عذبه بقسطه وعدله سبحانه وتعالى كما يقول جمهور المسلمين.
ولكن، وقبل الشروع في الموضوع نرى أن نبين رأي العلماء في تعريف الكبيرة وتبيين حدها.
وَثَالِثُهَا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ}، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْرَبُونَهُ إِلَّا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم.
قال الإمام الحَليمي-رحمه الله- في “المنهاج في شعب الإيمان” (ج1 ص397):” ويفهم من هذا أنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، فقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تنضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة بانضمام قرينة إليها، إلا الكفر بالله عز وجل، فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة، فأما ما عداه فالأمر فيه ما ذكرته، فقتل النفس بغير حق كبيرة، فإن كان المقتول أبا أو ابنا أو ذا رحم أو أجنبيا بالحَرم فهو فاحشة، وأما الخدشة والضربة بالعصا مرة أو مرتين فمن الصغائر، والزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو لا بواحدة من هاتين، لكن يأثم في شهر رمضان أو في البلد المحرم فهو فاحشة.
والفرار من الزحف كبيرة، فإن كان من واحد أو اثنين ضعيفين وهو أقوى منهما، أو اثنين حملا عليه بالسلاح وهو شاك السلاح، فذلك فاحشة وعقوق الوالدين كبيرة، فإن كان مع العقوق سب أو شتم أو ضرب فهو فاحشة، وإن كان العقوق الاستثقال لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجههما والتزم بهما مع بذل الطاقة ولزوم الصمت فهذا من الصغائر، فإن كان ما يأتيه من ذلك ينجيهما إلى أن ينقصا عنه فلا يأمراه ولا ينهياه أو يلحقهما من ذلك ضر فهذا كبيرة، والسرقة من الكبائر، فأما أخذ المال في قطع الطريق فاحشة.
وشرب الخمر من الكبائر، فإن استكثر من الشرب حتى سكر أو جاءهم به فذلك من الفواحش، فإن مزج خمرًا مثلها من الماء فذهبت شدتها وشربها فذلك من الصغائر.
وترك الصلاة من الكبائر، فإن صار عادة فهو من الفواحش، فإن أقامها ولم يوفها حقها من الخشوع، لكنه التفت فيها أو فرقع أصابعه أو استمع إلى حديث الناس أو سرى الحصى، أو أكثر مس لحيته فذاك من الصغائر، وإن ترك إيتاء الجمعة من غير عذر فذاك من الكبائر، فإن اتخذ عادة فهو من الفواحش، وإن ترك إيتاء الجمعة لغيرها فذاك من الصغائر، وإن اتخذ ذلك عادة قصد به مباينة الجماعة والانفراد عنهم فذاك كبيرة، وإن اتفق على ذلك أهل بلده فهو من الفواحش…الخ.
على أن مرتكب الكبيرة عند المعتزلة ومنهم الكعبي: أن صاحب الكبيرة ليس مؤمنا مطلقا، ولا كافرا مطلقا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمًنا ولا كافرًا.
ولأن إطلاق الإيمان عليه تشريفا له، مع أنه ليس أهلا لهذا التشريف بسبب إعراضه وعصيانه، ولا يستحق أيضا أن يطلق عليه إسم الكافر والنفاق لأن أحكام الكفار والمنافقين لا تجري عليهم.
الخاتمة:
ورب سائل يسأل عن مصير أصحاب الكبائر من المسلمين يوم القيامة بلا توبة؟!
قال الحليمي:” قيل له: -وبالله التوفيق- أمرهم إلى الله تعالى، فإن عفا عنهم مبتدئًا، وإن شاء شفع فيهم نبيهم، وإن شاء أمر بإدخالهم النار وكانوا معذبين بها مدة، ثم أمر بإخراجهم منها إلى الجنة إما بشفاعة ولا يخلد في النار إلا الكفار.
فإن سأل عن الدلائل على ما قلنا! أما الدليل على أن غير الكفار لا يخلد في النار فهو قول الله عز وجل {من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فأخبر أن التخليد في النار إنما هو لمن أحاطت به خطيئته ، والمؤمن صاحب الكبيرة والكبائر لم تحط به خطيئاته، لأن رأس الخطايا هو الكفر، وهو غير موجود منهم، فصح أنه لا يخلد في النار”.