

معاويةُ بنُ أبي سفيان القرشي الأموي: مؤسس الدولة الأموية في الشام، وأحد دهاة العرب، وفصحائهم، وحلمائهم الكبار؛ الذين ضربت بهم الأمثال، وتحدثت عنهم كتب الأخبار، مكّيُ الولادة، أسلم يوم فتح مكة (سنة 8 هـ) وتعلم الكتابة والحساب، فجعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جملة كتاب الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكانت هذه فصيلته العظمى؛ لأنه لا يُختار لكتابة الوحي إلا الأمين. ففي مسند الإمام أحمد- وأصله في “صحيح مسلم (2604)، عن ابن عباس قال : ” قال لي النبي ﷺ: (ادع لي معاوية، وكان كاتبه) “، وفي رواية عند البيهقي وغيره : ” وكان يكتب الوحي، فصرح بالوحي، وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (ج2:ص540): ” وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ : كُنْتُ أَلْعَبُ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ : ادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ “، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ “. وقال ابن تيمية في منهاج السنة” (ج4: ص439).: « استَكْتَبَه النبي ﷺ لخِبْرَتِه وأمانته». وأمَّره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وولاهُ الصِدّيقُ قيادة جيش أخيه (يزيد) ، ففتح مدينة صيداء، وعرقة، وجبيل، وبيروت، وولاهُ عمر ولايتي الأردن، ودمشق، وجمع له عثمان الشامَ كلها . وقُتل عثمان، فولي (علي بن أبي طالب) فوجه لفوره بعزل معاوية. وعلم معاوية بالأمر قبل وصول البريد، فنادى بثأر عثمان واتَّهمَ عليًّا بدمه، ونشبت الحرب بينهما. فانتهت بإمامتهما؛ معاوية في الشام، وعلي في العراق. ثم قتل علي وبويع لابنه الحسن، فسلم الخلافة إلى معاوية سنة 41 هـ، فدامت له حتى بلغ الشيخوخة، فعهد بها إلى ابنه يزيد ومات في دمشق.
قال صاحب “سير أعلام النبلاء” (5/ 128): “حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ – وَهُوَ ثَغْرٌ- فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ!”.
هو كذلك أحد عظماء الفاتحين ، بلغت فتوحاته مساحات واسعة، ومنها بلاد السودان (سنة 43)، وكثير من جزائر يونان والدردنيل. وحاصر القسطنطينية برًا وبحرًا سنة ( 48)، وله (130) حديثا.
أولويته
هو أول مسلم ركب البحر للغزو، وهو أول من جعل دمشق مقر خلافة، وأول من اتخذ الحرس والحُجاب في الإسلام، وأول من نصب في المسجد المحراب.
ضربت في أيامه دنانير (عليها صورة أعرابي متقلد سيفًا) .
أخباره في السنَّة النبوية
دعا له الرسول ﷺ بالهداية فقال : ” اللهم اجعله هاديًا مهديًا واهد به “. صحيح الترمذي
دعاؤه له بالعلم والنجاة من العذاب : “اللهم علِّم معاويةَ الكتابَ والحساب، وقِهِ العذاب”. صحيح ابن حبان
شهادته له بالسبق والفضل والجهاد – ففي صحيح البخاري عن “أم حرام” رضي الله عنها: ” أن رسول الله – ﷺ – نام عندهم القيلولة ثم استيقظ وهو يضحك؛ لأنه رأى غزاة من أمته يركبون ثبج البحر – وسطه – ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى، فقالت له “أم حرام” : ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فركبت “أم حرام” البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها فهلكت “، والجيش الذي بشر به النبي هو جيش معاوية حين فتح قبرص سنة 27هـ أيام عثمان.
وفي “البخاري” : قال رجل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ إنه أوتر بركعة؟ قال : أصاب؛ إنه فقيه.
شهادة الصحابة والتابعين له
-
جاء في كتاب “الاستيعاب” (ج3: ص1418):” ذم مُعَاوِيَة عِنْدَ عُمَر يومًا، فَقَالَ: دعونا من ذم فتى قريش؛ من يضحك فِي الغضب، ولا ينال مَا عنده إلا على الرضا، ولا يؤخذ مَا فوق رأسه إلا من تحت قدميه”.
-
وفي “تاريخ الإسلام” (ج2:ص245):” كَانَ عمر إذا نظر إِلَى مُعَاوِيَة قَالَ: هَذَا كسرى العرب”.
-
وقال : “تعجبون من دهي هرقل وكسرى، وتدعون معاوية!”.
-
ودعا عمر أبا سفيان يعزيه بيزيد، فقال له أبو سفيان: من جعلت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال: جعلت أخاه معاوية، وابناك مصلحان، ولا يحل لنا أن تنزع مصلحاً.
-
وقال يزيد: حدّثني أبي أنّ عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقّاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى أخبر به، فرجع إليه، فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلًا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفًا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلد لا نمتنع فيها من جواسيس العدوّ ولا بدّ لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان؛ فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت، فقال: لئن كان الذي تقول حقًا فإنه رأي أريب؛ وإن كان باطلًا خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه، فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: “لحسن موارده جشّمناه ما جشّمناه”.
-
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا تَكْرَهُوا إِمْرَةَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّكُمْ لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تَنْدُرُ عَن كَوَاهِلْهَا.
شهادة ابن عباس
-
جاء في مصنف عبد الرزاق (20985)، قال ابن عباس : ” ما رأيت رجلًًا كان أخْلَقَ للمُلك من معاوية .
-
وقال : “لله بلاد ابن هندٍ، ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته! والله ما شتمنا على منبرٍ قط، ولا بالأرض، ضناً منه بأحسابنا وحسبه”.
-
وقال أيضاً:”قد علمت بما كان معاوية يغلب الناس؛ كان إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار”.
-
ولما جاء نعي معاوية إلى ابن عباس، والمائدة بين يديه، قال لغلامه: ارفع ارفع. ثم قال: اللهم أنت أوسع لمعاوية، ثم قال: خيرٌ ممن يكون بعده، وشر ممن كان قبله؛ ثم قال:
جبلٌ تزعزع ثم مال بجمعه
في البحر لا رَتقَت عليك الأبحر
شهادة ابن الزبير
-
قال عبد الله بن الزبير، وهو يخطب، وذكر معاوية: رحم الله ابن هندٍ، لوددت أنه بقي ما بقي من أبي قبيسٍ حجرٌ، على مثل ما فارقنا عليه، كان -والله- كما قال بطحاء العذري:
ركوب المنابر ذو هيبةٍ
معن بخطبته مجهر
تثوب إليه هوادي الكلام
إذا ضل خطبته المهمر
شهادة ابن عمر وغيره
-
قَالَ ابْنُ عُمَر،: مَا رأيت أحدًا بعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسود من مُعَاوِيَة. فقيل لَهُ: فأبو بَكْر، وَعُمَر، وعثمان، وعلي! فَقَالَ: كانوا والله خيرا من مُعَاوِيَة، وَكَانَ مُعَاوِيَة أسود منهم”.
-
عَن المقْبُري، قَالَ: “تَعجبون من دَهاء هِرَقْلَ وكسرى، وتدعون معاوية !”.
-
وقال قبيصة بن جابر: «صحبتُ معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه».
-
قيل للحسن البصري في تاريخ دمشق (59/ 206):” يا أبا سعيد، إن ههنا قوماً يَشتمون -أو يلعنون- معاوية وابن الزبير!” فقال : عَلَى أولئك -الذين يَلعَنونَ- لعنةُ اللهِ . ينظر: ” .
-
وفي “الطبقات الكبرى” لابن سعد قال أبو إسحاق السبيعي: ” كان معاوية، وكان وكان، وما رأينا بعده مثله! “.
-
قال مجاهد في السنة للخلال (ص669): “لو رأيتم معاوية لقُلْتم : هذا المهدي! “.
-
وسئل الإمام عبد الله بن المبارك: هل عمر بن عبد العزيز أفضل أم معاوية؟ فقال : « واللهِ إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله ﷺ أفضل من عمر بألف مرة!.
-
وفي “الشريعة للآجري” ( ج5 :ص 2466 -2467) وسئل المعافى بن عمران، أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟ فرأيته غضب غضباً شديداً ، وقال : لا يقاس بأصحاب محمد ﷺ أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه وصاحبه وصهره وأمينه على وحيه عز وجل.
التحذير من شتمه
– وفي “تاريخ دمشق” لابن عساكر (ج59: ص211): قال الحافظ إبراهيم بن ميسرة: “ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية فإنه ضربه أسواطاً”.
– وفي كتاب “الشفاء” للقاضي عياض؛ قال الإمام مالك – رحمه الله -: ” من شتم أحدًاً من أصحاب النبي ﷺ ، أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً “.
– وفي “طبقات الحنابلة” (ج1: ص285):” قال الإمام أحمد بن حنبل: من شتم معاوية أو عمرو بن العاص فلا يُصلى خلفه، ولا كرامة.
شعر ه
ذكر ابن رشيق في كتابه “العمدة” (ج1:ص32) أشعار الخلفاء والقضاة والفقهاء، وذكر منهم شعر معاوية، فقال: روى الكلبي عن عبد الرحمن المدني، قال: لما حضرت معاوية الوفاة جعل يقول:
إن تناقش يكن نقاشك يارب
عذاباً، لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب رءوف
عن مسيء ذنوبه كالتراب
وروى في غير موضع واحد:
فقدت سفاهتي، وأزحت غيي
وفيَّ على تحلميَ اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني
إلى حاجاتها الحدق المراض
ومن قوله ايضاً، وهو لائق به، دال على صحة ناقله:
إذا لم أجد بالحلم مني عليكم
فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم!؟
خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد
حباك على حرب العداوة بالسلم
وهي على قلتها تعطيك صورة واضحة عما كان عليه من نزعة دينية وحلم ووقار.
خطبه
قال صاحب “خطب العرب” (ج1: ص310):”لا مراء أن خطب العرب في عصور ازدهار اللغة مرآة يتجلى فيها ما حباهم الله من ذلاقة اللسان، وعذوبة البيان، ومعرض يتمثل فيه نتاج قرائحهم، وثمرات ألبابهم، في كثير من مناحي القول، وإنها لتعد -بعد القرآن الكريم والحديث الشريف- مثالًا ساميًا للبلاغة العربية، ونموذجًا قويمًا يجتذيه المتأدب في تقويم قلمه المعوج، وشحذ لسانه الكليل..”.
ولا مراء أن معاوية من الخطباء المصاقع، فقد ذكره الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين”، وذكر قول سعيد بن المسيب وقد سُئِل: مَن أبلغ الناس؟ فقال: “رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقيل: ليس عن هذا نسألك، قال: معاوية وابنه”.
وقد روت كتب التراجم والتاريخ لمعاوية خطبا كثيرة، تفيض فصاحة وبلاغة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله، ولعل خطبته في أهل المدينة من أجمل خطبه. ذكر صاحب “عيون الأخبار” (ج4:ص172):” حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: قال :” يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق؛ يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرىء منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شرّ لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرّتق خير من الفتق، وفي كلّ بلاغ، ولا مقام على الرزية.
نقده للشعر
لمعاوية-رضي الله عنه- آراء نقدية قيمة في فن الشعر، تظهر وظائفه الحيوية التي تقوم به، كتب معاوية إلى زيادٍ يحُثُّه على تعليم ابنه الشعرَ، ويأخذ عليه تقصيرَه في رعاية هذا الجانب الهام في تربيته وتثقيفه:
قال: “ما منعك أن تُرَوِّيه الشعر؟! فوالله، إن كان العاق ليرويه فيبرُّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيُقاتل”.
حلمهُ
لقد كان حلم معاوية – رضي الله عنه – مضرب المثل، وأخباره في ذلك كثيرة جدًا، وحسبك أن الحافظين ابن أبي الدنيا وابن أبي عاصم أفردا تصنيفًا في حلم معاوية.
-
قال ابن عون: «كان الرجل يقول لمعاوية: «والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنُقَوِّمَنَّكَ»، فيقول: «بماذا؟»، فيقول: «بالخشب»، فيقول: «إذن نستقيم».
-
وقال قبيصة بن جابر: «صحبتُ معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه».
-
عن أبي مسلم الخولاني، أنه نادى معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – وهو جالس على منبر دمشق فقال: «يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور؛ إن جئتَ بشيء كان لك شيء، وإن لم تجئ بشيء فلا شيء لك. يا معاوية، لا تحسبَنَّ الخلافة جمع المال، وتفرقته ولكن الخلافة العمل بالحق والقول بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار وما صفَت لنا رأس عيننا وإنك رأس أعيننا، يا معاوية إنك إن تَحِفْ على قبيلة من قبائل العرب يذهب حَيْفُك بعدلِك». فلما قضى أبو مسلم مقالته أقبل عليه معاوية فقال: «يرحمك الله يرحمك الله».
-
أغلظ رجلٌ لمعاوية، فقال: أنهاك عن السلطان، فإن غضبه غضب الصبي، ويأخذ أخذ الأسد.
-
عن الأعمش، قال: طاف الحسن بن علي مع معاوية، فكان يمشي بين يديه، فقال: ما أشبه أليته بأليتي هندٍ، فسمعه معاوية، فالتفت إليه، [فقال:] أما إنه كان يعجب أبا سفيان.
-
أسمع رجلٌ مرةً معاوية كلاماً شديداً، غضب منه أهله، فقيل له: لو سطوت عليه، فكان نكالاً. قال: إني لأستحيي أن يضيق حلمي عن ذنب أحدٍ من رعيتي.
-
حج معاوية، فلما كان عند الردم، أخذ حسين بخطامه فأناخ به، ثم ساره طويلاً، ثم انصرف؛ وزجر معاوية راحلته وسار، فقال عمرو بن عثمان: ينيخ بك الحسين، وتكف عنه، وهو ابن أبي طالبٍ! فقال معاوية: دعني من علي؛ فوالله ما فارقني حتى خفت أن يقتلني، فلو قتلني ما أفلحتم؛ وإن لكم من بني هاشمٍ ليوماً.
-
عن سفيان بن عيينة، قال: بينا معاوية يسير في طريق مكة، إذ نام على راحلته، فلحقه ابن الزبير، فقال: أتنام وأنا معك؟ أما تخاف أن أقتلك؟ قال: لست من قتالي الملوك، إنما يصيد كل طيرٍ قدره؛ إنما أنت – يا ابن الزبير – ثعلبٌ رواغٌ، تدخل من جُحر وتخرج من جحر؛ والله لكأني بك قد ربقت كما يربق الجدي، فميا ليتني لك حياً فأخلصك، وبئس المخلص كنت.
-
ذكروا أن رجلاً طال مقامه بباب معاوية، ثم أذن له، فقال: يا أمير المؤمنين، انقطعت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك بالصبر، وليس لمقربٍ أن يأمن، وليس لمباعدٍ أن ييأس، وكل صائرٌ إلى حظه من رزق الله، فقال معاوية: هذا كلامٌ له ما بعده؛ فأمر بعهده إلى فلسطين؛ فقال الرجل:
دخلتُ على معاوية بن حربٍ
وكنت وقد أيست من الدخول
وما أدركت ما أملت حتى
حللت محلة الرجل الذليل
وأغضيت العيون على قذاها
ولم أنظر إلى قالٍ وقيل
-
دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية، فسلم ولم يسلم بإمرة المؤمنين؛ فقال له معاوية: “لو شئت أن تقول غيرها لقلت”، قال: “فنحن المؤمنون ولم نؤمرك؛ كأنك معجبٌ بما أنت فيه يا معاوية! والله ما يسرني أني على الذي أنت عليه، وأني هرقت محجمةٌ من دمٍ”، قال: “لكني وابن عمك علياً -يا أبا إسحاق- قد هرقنا فيها أكثر من محجمةٍ ومحجمتين؛ تعال واجلس معي على السرير”.
-
عن المغيرة، قال: “لما جيء معاوية بنعي علي -رحمه الله- وهو قائلٌ مع امرأته ابنة قرظة في يومٍ صائفٍ، قال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ماذا فقدوا من العلم والحلم، والفضل والفقه”، فقالت امرأته: “أنت بالأمس تطعن في عينيه، وتسترجع عليه اليوم؟ قال: ويلك، لا تدرين ماذا فقدوا من علمه وفضله وسوابقه”.
-
قال: “جاء ابن أحوز التميمي إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، جئتك من عند ألأم الناس، وأبخل الناس، وأعيًا الناس، وأجبن الناس. [ص:25] فقال: ويلك، وأنى أتاه اللؤم، وكنا نتحدث أن لو كان لعلي بيتٌ من تبرٍ وآخر من تبنٍ، لأنفد التبر قبل أن يُنفد التبن؟ ويحك، وأنى أتاه العي، وإن كنا نتحدث أنه ما جرت المواسي على رأس رجلٍ من قريشٍ أفصح من علي؟ ويلك، وأنى أتاه الجبن، وما برز له رجلٌ قط إلا صرعه؟ -والله- يا ابن أحوز- لولا أن الحرب خدعةٌ، لضربت عنقك؛ اخرج، فلا تقيمن في بلدي”، قال عطاءٌ: “وإن كان يقاتله، فإنه قد كان يعرف فضله”.
-
عن المغيرة، قال: “أرسل الحسن بن علي وابن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث بمئة ألفٍ -أو لكل واحدٍ منهما مئة ألفٍ- فبلغ ذلك علياً، فقال لهما: ألا تستحييان؟ رجلٌ نطعن في عينه غدوةً وعشيةً، تسألانه المال؟ قالا: لأنك حرمتنا وجاد لنا”.
-
قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباسٍ: يا بني هاشمٍ، أما والله لقد تقلدتم بقتل عثمان فرم الإماء العوارك؛ أطعتم فساق أهل العراق في عيبه، وأحرزتموه مراق أهل مصر، وأويتم قتلته؛ وإنما نظر الناس إلى قريشٍ، ونظرت قريشٌ إلى بني عبد مناف، ونظرت بنو عبد مناف إلى بني هاشمٍ. فقال عبد الله بن العباس لمعاوية: يا معاوية، ما تكلم عمرو إلا عن رأيك، وإن أحق الناس أن لا يتكلم في أمر عثمان لأنتما. أما أنت يا معاوية، فزينت له ما كان يصنع، حتى إذا أحصر طلب نصرك، فأبطأت عنه، وأحببت قتلته، وتربصت به. وأما أنت يا عمرو، فأضرمت المدينة عليه، وهربت إلى فلسطين تسأل عن أنبائه؛ فلما أتاك قتله، أضاقتك عداوة علي، إلى أن لحقت بمعاوية، فبعت دينك منه بمصر، فقال معاوية: حسبك -يرحمك الله- عرضني لك عمرو، وعرض نفسه؛ لا جزي عن الرحم خيراً.
-
عن ابن سيرين، قال: قام رجلٌ إلى معاوية كأنه سفودٌ محترقٌ، فقال: يا معاوية، والله لتستقيمن أو لنقومنك. قال معاوية: بماذا؟ قال: بالقتل. قال: إذاً نستقيم يا أعرابي.
-
كتب ابن الزبير إلى معاوية: قد علمت أني صاحب الدار، وأني الخليفة بعد عثمان، ولأفعلن ولأفعلن. فدعا معاوية يزيد، فقال: ما ترى؟ قال: أرى -والله- أن لو كنت أنت وهذا على السواء، ما كان ينبغي أن تقبل منه هذا. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إليه خيلاً؛ قال: ويحك، إني لا أصل إلى ابن الزبير حتى أقتل دونه رجالاً من قريشٍ؛ فكم ترى أن أرسل إليه؟ قال: أربعين ألف فارسٍ. قال: فكم ترى يكفيها لمخاليها؟ قال: أربعون ألف مخلاةً، لكل مخلاةٍ درهمٌ، فذلك أربعون ألف درهمٍ. فقال معاوية: يا غلام، اكتب إلى ابن الزبير: إن أمير المؤمنين قد بعث إليك ثلاثين ألف درهمٍ، تستعين بها على أمرك.
قال: فكتب ابن الزبير: وصلت أمير المؤمنين رحمٌ. فقال معاوية ليزيد: ربحنا على ابن الزبير عشرة آلاف درهمٍ في المخالي.
-
أتي معاوية بقطائف، فقسمها بين أهل الشام، وأعطى شيخاً قطيفةٌ، فتسخطها، وحلف ليضربن بها رأس معاوية؛ فبلغ معاوية فقال له: أوفِ بنذرك، وليرفق الشيخ بالشيخ.
-
عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: خطبهم معاوية على منبر مكة، فقال: إن عتبة بن أبي سفيان كتب إلي، يذكر أن أناسًاً من باهلة دلوا الروم على عورات المسلمين، وبالله لقد هممت أن أكتب إليه أن يحملهم في البحر، ثم يغرقهم. فقام عبدٌ أسود، فقال: والله لا نرضى بكل رجلٍ منهم رجلاً من ولد أبي سفيان. فقال معاوية: اجلس يا غراب. فقال: أبالسودة تعيرني؟ الغراب ينقر عين الرخم.
وقال عمرو بن العاص: ألا تضرب عنق هذا الكلب؟ قال: إنا -والله- لا نحول بينهم وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.
-
عن قتادة، قال: لقي معاوية ابن عباس، فقال له: يا ابن عباسٍ، احتسب الحسن، لا يحزنك الله ولا يسوؤك. قال: أما ما أبقى الله أمير المؤمنين فلا يحزني ولا يسؤوني. قال: فأعطاه على كلمته ألف ألفٍ رقةً وعروضاً وأشياء. قال: خذها فاقسمها في أهلك.
-
عن الشعبي، قال: قدم رجلٌ على معاوية، فسأله فأعطاه، فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين. فقال: يا ابن أخي، والله لئن كنا نؤجر فيما نعطي، وليس علينا إثمٌ فيما نأخذ، ما كان في الدنيا شيخان أقل حظاً من أبي بكرٍ وعمر؛ وليس كما ذكرت، وسأنبئك به: فتحنا لكم باب الهجرة، وسددنا الثغور، وأدررنا الأعطية، وأجرينا الرزق، وبقي بعد ذلك مالٌ كثيرٌ، عاث فيه معاوية وآل معاوية، وسيلقون الله فيحاسبهم، فإن شاء غفر لهم، إنه غفورٌ رحيمٌ.
-
قدم شاب من قريشٍ على معاوية، فحجبه عبيدٌ حاجبه، فقام إليه في بعض ما كان يرده عن الباب، فأغلظ له عبيدٌ، فرثمه الفتى، فدخل على معاوية وعليه قميصٌ مدلوكٌ عليه الدماء؛ فغضب معاوية حتى عرف الغضب في وجهه، ثم سكت طويلاً، ثم رفع رأسه فقال للحاجب: انطلق، فإن القدرة تذهب الحفيظة، يعني الغضب.
-
كان شداد بن أوسٍ فيمن ترك معاوية واعتزله، فقال له معاوية: قم فاخطب؛ فقام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا إن الدنيا عرضٌ حاضرٌ، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة وعدٌ صادقٌ، يحكم فيه ملكٌ قادرٌ؛ ألا إن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، {من يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} غفر الله لي ولكم. [ص:32]
وفي رواية أخرى: أن معاوية قال لشداد بن أوسٍ: قم فاخطب. فقال شدادٌ: الحمد لله الذي افترض الحمد على عباده، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا خلقه، على ذلك مضى أولهم، وعليه يمضي آخرهم. أيها الناس: ألا إن الآخرة وعدٌ صادقٌ، يحكم فيه ملكٌ قادرٌ؛ وإن الدنيا أجلٌ حاضرٌ، يأكل منه البر والفاجر؛ وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لا حجة له؛ وإن الله تبارك وتعالى إذا أراد بالناس صلاحاً عمل فيهم صلحاؤهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وجعل الملك في سمحائهم. وإذا أراد الله بالعباد شراً، عمل عليهم سفهاؤهم، وقضى بينهم جهلاؤهم، وجعل المال عند بخلائهم؛ وإن من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤها، ونصحك -يا معاوية- من أسخطك بالحق، وغشك من أرضاك بالباطل.
فقال له معاوية: اجلس؛ وأمر له بمال. فقال: إن كان من مالك دون مال المسلمين، تعاهدت جمعه مخافة تبعته، فأصبته حلالاً، وأنفقته إفضالاً، فنعم. وإن كان مما شركك فيه المسلمون فاحتجنته دونهم، أصبته اقترافاً، وأنفقته إسرافاً؛ فإن الله عز وجل يقول: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}.
-
قال الفضيل: إن وفداً من أهل العراق قدموا على معاوية، فيهم [ص:33] صعصعة بن صوحان، فقال لهم معاوية: مرحباً بكم وأهلاً، قدمتم خير مقدمٍ، قدمتم على خليفتكم وهو جنةٌ لكم، وقدمتم أرضاً بها قبور الأنبياء، وقدمتم الأرض المقدسة وأرض المحشر.
فقال صعصعة: أما قولك: مرحباً بكم وأهلاً، فذاك من قدم على الله وهو عنه راضٍ. وأما قولك: قدمتم على خليفتكم وهو جنةٌ لكم، وكيف لنا بالجنة إذا احترقت. وأما قولك: قدمتم الأرض المقدسة، فإنها لا تقدس كافراً. وأما قولك: قدمتم أرضاً بها قبور الأنبياء، فمن مات بها من الفراعنة أكثر ممن مات بها من الأنبياء. وأما قولك: قدمتم أرض المحشر، فإنه لا يضر بعدها مؤمناً، ولا ينفع قربها كافراً. قال: اسكت، لا أرض لك. قال: ولا لك يا معاوية، إنما الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده. قال: أما -والله- لقد كنت أبغض أن أراك خطيباً. قال: وأنا -والله- لقد كنت أبغض أن أراك خليفةً.
-
قال: لما بايع الناس معاوية، أتاه أبو موسى، فدخل عليه، فقال: السلام عليك يا أمير الله. قال: ما تقول يا أبا موسى؟ ما هذه؟ قال: رأيت الله أمرك ونحن كارهون، فأنت أمير الله. قال: صدقت.
-
جاء رجلٌ إلى معاوية، وهو يبايع الناس بالكوفة، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله. فقال له معاوية: أنت الذي لا أمير لك. قال الرجل: وأنت الذي لا بيعة لك. فقال معاوية: وما خير بيعةٍ ليس فيها سنة الله وسنة رسوله؟ فبايعه، ثم قال: يا ابن أخي، اتق غضب السلطان، فإن السلطان يغضب غضب الصبي، ويأخذ أخذ الأسد.
-
وروي أن معاوية بن أبي سفيان، كان يلقاه الحسن بن علي، فيقول: مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحباً وأهلاً؛ يا غلام، أعطه مئة ألفٍ. ويلقاه عبد الرحمن بن أبي بكرٍ، فيقول: مرحباً بابن الصديق؛ يا غلام، أعطه مئة ألفٍ، فيأخذها. ويلقاه ابن عمر، فيقول: مرحباً بابن الفاروق، أعطه مئة ألفٍ، فيعطاها. ويلقاه ابن الزبير، فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله عليه السلام، أعطه مئة ألف، فيعطاها.
-
وجاء رجلٌ إلى معاوية، فقال: سرق ثوبي هذا، فوجدته مع هذا الرجل. فقال: لو كان لهذه علي بن أبي طالبٍ!
-
وقال معاوية لرجلٍ من يهود، أحد بني الحارث بن كعب: هل تروي من شعر أبيك شيئاً؟ قال: أي شعره أردت؟ قال: أبياتاً كانت قريشٌ تغبطه بها. قال: نعم:
هل أضرب الكبش في ملمومةٍ قدماً
أم هل سمعت بسر كان لي نشرا
أم هل يلومونني قومي إذا نزلوا
أم هل يقولون يوماً: قائلٌ بسرا
نقريهم الوجه ثم البذل يتبعه
لا نمنع العرف منا قل أو كثرا
قال معاوية: أنا -والله- أحق بها من أبيك. قال اليهودي: كذبت، لعمرو الله، لأبي أحق بها إذ سبق إليها.
فاستلقى معاوية، ووضع ساعده على وجهه؛ فقال الوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن أم الحكم: اسكت يا ابن اليهودية؛ وشتماه. فقال اليهودي: كفا عن شتمي، فإن لم تفعلا، شتمت صاحب السرير، فرفع معاوية وجهه ضاحكاً، وقال: كفا عنه يكفف عن عرضي؛ ثم قال لليهودي: إنكم أهل بيتٍ كنتم تجيدون صنعة الهريسة في الجاهلية، فكيف صنعتكم لها اليوم؟. قال: اليهودي: نحن اليوم -يا أمير المؤمنين- لها أجود صنعةً. قال: فاغد بها علي. وأمر له بأربعة آلافٍ، فخرج. فقال الوليد وعبد الرحمن: كذبك، وأمرت له بجائزة!. قال: أنتما أجزتماه بها؛ شتمتماه، فأردت أن أستل سخيمته. وغدا عليه بالهريسة.
-
قال قال قومٌ من قريشٍ: ما نظن معاوية أغضبه شيءٌ قط. قال بعضهم: بلى، إن ذكرت أمه غضب؛ فقال مالك بن أسماء المنى القرشي -وهي أمه، وإنما قيل لها: المنى، من جمالها-: والله لأغضبنه إن جعلتم لي جعلاً. فأتاه، وقد حضر معاوية ذلك العام الموسم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه عينيك بعيني أمك. قال: تك عينان طالما أعجبتا أبا سفيان؛ يا أبن أخي، انظر ما أعطيت من الجعل، فخذه ولا تتخذنا متجراً. فرجع الغلام، فأخذ جعله؛ فقال له رجلٌ منهم: لك ضعفا جعلك إن أتيت عمرو بن الزبير، فشبهته بأمه؛ فأتاه، فقال: يا ابن الزبير، ما أشبه وجهك بوجه أمك. فأمر به، فضرب حتى مات، فبعث معاوية بديته إلى أمه، وقال:
ألا قل لأسماء المنى أم مالكٍ
فإني لعمرو الله أقتلت مالكا
-
لما بايع معاوية ليزيد، قال رجلٌ: اللهم اكفني شر معاوية. فقال معاوية: تعوذ بالله من شر نفسك، فهو أشد عليك، وبايع. قال: إني لا أبايع وأنا كاره، فقال معاوية: بايع -رحمك الله- فإن في الكره خيراً كثيراً.
-
وممّا يذكر من حلم معاوية، رضي الله عنه، ما رواه الهيثم بن عديّ، قال: حجّ معاوية حجّتين في خلافته، وكانت له ثلاثون بغلة تحجّ عليها نساؤه وجواريه. قال: فحجّ في إحدى حجتيه فرأى شيخا يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ قالوا: سعية بن غريض. فأرسل إليه يدعوه. فأتاه رسوله فقال: أجب أمير المؤمنين. قال: أوليس أمير المؤمنين قد مات؟ قيل: فأجب معاوية. فأتاه، فسلّم عليه بغير الخلافة. فقال له معاوية: ما فعلت أرضك التي بتيماء؟ قال: يكسى منها العاري، وتشبع الجيعان، ويردّ فضلها على الجار. قال: فتبيعها؟ قال:
نعم. قال: بكم؟ قال: بستّين ألف دينار، ولولا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها. قال: قد أغليت. قال: أمّا لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستّمائة ألف دينار ثمّ لم تبالي. قال: أجل! فإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك في نفسه. فقال: قال أبي، وأنشده الأبيات المقدّم ذكرها وزاد فيه:
ولقد ضربت بفضل مالي حقّه
عند الشّتاء وهبّة الأرواح
ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم
ولقد رددت الحقّ غير ملاح
فقال معاوية: أنا كنت أحقّ من أبيك بهذا الشعر. قال: كذبت ولو متّ. قال: أمّا كذبت، فنعم، وأمّا متّ، فلم؟ قال: لأنّك كنت ميّت الحقّ في الجاهليّة وميّتة في الإسلام. أمّا في الجاهليّة فقاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والوحي، حتّى جعل الله كيدك المردود. وأمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حقّهم من الخلافة، وما أنت وهي! وأنت طليق ابن طليق.
فقال معاوية، رضي الله عنه: قد خرف الشيخ فأقيموه. فأخذ بيده إزعاجًا.
فقال: مه! أرفقوا بالشيخ.
وفي “سمط النجوم” ج3:ص159):”أن رجلا شارط آخر على أَن يضْرب مُعَاوِيَة كَفاً، فَلَمَّا فعله الْتفت إِلَيْهِ مُعَاوِيَة وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى صَاحبك وَخذ شرطك وَلَا تعد لمثلهَا ثمَّ إِن هَذَا الرجل شارط آخر على مثلهَا فِي يزِيد فَلَمَّا فعله أَمر بِقطع يَدَيْهِ فَقَالَ الرجل إِن كَانَ لَا بُد فَوَاحِدَة فَقَالَ يزِيد وَاحِدَة للضرب وَالْأُخْرَى للشّرط ،فَقَالَ لَهُ الرجل غَرني حلم مُعَاوِيَة يَا يزِيد، فَقَالَ يزِيد: تِلْكَ أمة قد خلت”.
-
وفي كتاب “الفاضل” (ص87):” أن أبا الجهم الأموىّ قال: لقد بتّ ليلة بأسرها قلقا أفكّر في حلم معاوية فيذهب عنى وسنى، قال: وغدوت عليه وأنا مجمع لقاءه بما أرجو أن يُطيّشه، فدخلت عليه، وقد كان عنده رجل أغضبه بأشياء لقيه بها، فقلت فى نفسى: ظفرت به، فسلّمت عليه، فردّ علىّ جوابا ضعيفا، فقلت: يابن هند، أبلغ بك الأمر إلى أن أسلّم عليك فتردّ علىّ مثل هذا الردّ! والله لقد رأيت أمّك وهى شابة ناهد، وأنا إذ ذاك أطلب الفجور، فعرضت علىّ نفسها فأبيتها، فقال: يا أبا الجهم، أما إنك لو نكحتها لنكحت حصانا كريمة، ولكنت أهلا لها. قال أبو الجهم: فوقعت على رجليه أقبلهما، وأقول:
نقلّبه لنخبر حالتيه
فيكشف عنهما كرمًا ولينا
نميل على جوانبه كأنّا
نميل إذا نميل على أبينا
فقام معاوية فدخل إلى حجرة له فدعا بأبى الجهم فقال له: يا أبا الجهم، إيّاك وإغضاب الملوك، فإن لهم غضبًا كغضب الصبيان، وبطشًا كبطش الأسد.
يا غلام، أعطه ثلاثين ألف درهم، وليحملها معه ثلاثة من العبيد، فخرج من بين يديه ومعه تلك الصّلة.
-
ويروى أنه كان يقول: إذا لم يكن الملك حليمًا استفزّه الشىء اليسير الذى يندم عليه، وإذا لم يكن شجاعا لم يخفه عدوّه، وإذا كان شحيحا لم يكن له خاصة ولا مناصح، وإذا لم يكن صدوقًا لم يطمع فى رأيه.
-
عن العتبىّ قال: قيل لمعاوية: ما النّبل؟ قال: مؤاخاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء، فقيل له: ما المروءة؟ قال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة.
-
قالوا أن أروى بنت الحرث بن عبد المطلب كانت أغلظ الوافدات على معاوية خطاباً، وكان حلم معاوية أعظم من خطابها، دخلت عليه وهي عجوز كبيرة فلما رآها معاوية قال مرحبا بك يا خالة كيف كنت بعدنا؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، لقد كفرتَ النعمة، وأسأت بابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير دين كان منك ولا من آبائك ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله، فأتعس الله منكم الجدود، وأمرغ منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا هو المنصور فوليتم علينا بعد فأصبحتم تجمحون على سائر العرب بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا منكم فكنا فيكم بمنزلة بين إسرائيل في آل فرعون، وكان علي رضي الله عنه عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة هرون من موسى، فغايتنا الجنة، وغايتكم النار، فقال لها عمرو ابن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك، فقالت له أنت يا ابن الباغية تتكلم! وأمك كانت أشهر بغيٍ بمكة وأرخصهن أجرة وادعاك خمسة نفر كلهم يزعم أنك ابنه فسئلت أمك عن ذلك فقال كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به، فقال مروان :كفى أيتها العجوز واقصدي ما جئت له فقالت: وأنت أيضًا يا ابن الزرقاء تتكلم ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما أجرأ هؤلاء غيرك وأمك القائلة في قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم:
نحن أخزيناكم بيوم بدر
والحرب بعدًا لحرب ذاتُ عسر
من طرائفه :
ومن جميل طرائفه ما كان بينه وين سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، قيل: وضع معاوية بن أبي سفيان بين يدي الحسن عليه السلام، دجاجةً، ففكها، فنظر إليه معاوية، فقال: هل كان بينك وبينها عداوة؟ فقال له الحسن: هل كان بينك وبين أمها قرابة؟. ولا يظن عاقل أن معاوية قال هذا لأنه كان يعظم عليه قدر الدجاجة، وهو الذي ضرب به المثل في السخاء والعطاء، فقد كان يكتب إلى عماله بإطعام السابلة، والفقراء، وذوي الحاجة؟ وله في كل يومٍ أربعون مائدة يتقسمها وجود جند الشام؟.