مقالات
دراسات قرآنية ( 25) د . أحمد الزبيدي – الإمارات
رد الإمام الرازي على أبي القاسم الكعبي (المعتزلي) - (ح8) (خلق القرآن) الحلقة الأولى


قبل الشروع في الحديث عن مسألة (خلق القرآن) من الناحية الاعتقادية؛ بين جمهور المسلمين، والمعتزلة؛ وعلى رأسهم أبو القاسم الكعبي وهو موضوع مقالاتنا هذه، يحسن بنا أن نلم ولو بكلمة موجزة عن مَنشئها، وبدء تاريخِها، وبيان أثرها من الناحية السياسية.
-
من المتفق عليه أنَّ مَسألةَ (خَلقِ القُرآنِ) مِن عَقائِدِ أهلِ الاعتِزالِ، كما قال القاضي عَبدُ الجَبَّارِ: (أمَّا مَذهَبُنا في القُرآنِ فهو أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ تعالى ووَحيُه، وهو مَخلوقٌ مُحدَثٌ).
-
اشتهرت هذه المسألةُ في كتب العقائد وعلم الكلام وعلم التوحيد بمسألة (خلق القرآن)، أو (مسألة اللفظ)، أو ب(المحنة) كما عرفت بعدُ في كتب التراجم والتاريخ، ولا خلاف على أن أول من تكلم بمسألة (خلق القرآن) هو (الجَعد بن درهم) المتوفى نحو 118 هـ، ثم تبعه (جَهْم بن صَفْوان) السمرقندي المتوفى 128 هـ.
-
قال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أبي حاتِمٍ (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) (ص 382). : “سَمِعتُ أبي يقولُ: أوَّلُ مَن أتى بخَلقِ القُرآنِ الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ” ثُمَّ تَلقَّى ذلك عنه جَهمُ بنُ صَفوانَ .
-
أما الجَعد-كما وصفه المترجمون والمؤرخون- فهو مبتدع ضال، وله أخبار في الزندقة طوال. قال الذهبي: (تابعي، مبتدع، ضال، زعم إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى، فَقتِل على ذلك بالعراق يوم النحر).
-
وأما جهم بن صفوان فقد قتل أيضاً في سنة 128 هـ، لخروجه بالسيف على أمراء خراسان، على أن قتل جهم لم يحلْ دون ذيوع رأيه، وانتشار قوله في القرآن، فافتتن به جماعة، وشايعته جماعة، وعارضه آخرون، وكان أشدهم تأثيرا وأثرا، وأجلهم قدرًا وخطرًا، الإمام أبو حنيفة (المتوفى سنة 150 هـ)، حيث قال فيها قولا حسم الخلاف فيها إلى حين، ثم جاء من بعدهما الجعد بن درهم وجهم بن صفوات بشر بن غياث المَريسي (المتوفى 218 هـ)،وكان والده يهوديًا، فدعا إلى القول بخلق القرآن، واحتج لقوله، فحكم بكفره طائفة من العلماء، وسكت عن تكفيره طائفة، غير أنه توفي فلم يشيعه أحد من الطائفتين جميعًا، ولكن مع هذا لم تنطفيء شعلة القول بخلق القرآن، فظلت تتقد وتخبو إلى عهد الخليفة المأمون؛ فصادفت منه قلبًاً خاليًا فتمكنت.
قال عنه الإمام السيوطي في “تاريخ الخلفاء” (ص226):” وكان أفضل رجال بني العباس حزمًا، وعزمًا، وحلمًا، وعلمًا، ورأيًّا، ودهاء، وهيبة، وشجاعة، وسؤددًا، وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن”. وسرعان ما وَضعت المسألة جِرَانهَا، وأرخت عزاليها. قال الشاعر:
من الهوج مصلاتًا كأنَّ جرانها
يمان نضا جفنين فهو دلوق
[الجران: باطن العنق، وإنما أراد عنقها كله وسرعتها وخروجها من الإبل، فشبَّهها بسيف دلوق، والدلوق: الذي يسقط من غير سله، وهو أجود السيوف، ونضا جفنين: أخلقهما وألقاهما. والمصلاتة الماضية]، فما لبث حتى اعتقدها المأمون، وتبنى القول فيها، مقتنعا برأي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وأحمد هذا ولي قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وَكَانَ موصوفًا بالجود والسخاء، وحسن الخلق ووفور الأدب، غير أنه حمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، فدعا العلماء، والفقهاء، والمحدثين، والمتبوعين، وأصحاب الرأي في الناس إلى القول بذلك، وفي كل ذلك يمتحنهم ويضطهدهم، وكان ذلك منه في أخريات حياته، ونهاية خلافته سنة (218 هـ).
-
واستمرت الفتنة إلى عهد المعتصم، ثم إلى عهد الواثق، ثم إلى أول عهد المتوكل سنة (232 هـ) .
قال الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (ج16:ص22) :”كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن”، فلم يبق عالم، أو فقيه، أو محدث، أو متبوع، أو مؤذن، أو معلم، حتى أُخذ بالمحنة! فهرب كثير من الناس، وملئت الصدور بالهم والبأس، وازدحمت بالأبرياء السجون، وفاضت بالدمع العيون، واستمر الحال في ذلك طوال أيام الواثق المفتون، إلى أن تولى المتوكل الخلافة، وأمر برفع هذه السلافة، والسكوت عن هذه الخرافة، فاستراح وأراح”.
ولله در الإمام الشوكاني حينما عقب على هذه المسألة فقال: “وهذه المسألة: أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية، والمعتصمية، والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل، وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده والقصة أشهر من أن تذكر ومن أحب الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي.
-
ومما قيل في سبب انتهاء الفتنة، ما ذكره لنا الخطيب البغدادي-رحمه الله- في “تاريخ بغداد” (ج11:ص271):” قَالَ صالح بن علي: أقدم أَحْمَدُ بن أبي دؤاد علينا شيخًا من أهل الشام؛ من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدًا وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيى منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فبلغ وأوجز، فقَالَ له الواثق: اجلس، فجلس، وقَالَ له: يا شيخ ناظر ابن أَبِي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقَالَ له الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أَبِي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق وعاد مكان الرقة له غضبًا عليه، وقَالَ: ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت؟! فقَالَ الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن في مناظرته، فقَالَ الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نَقُول: قَالَ أفعل، فقَال الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن مقَالتك هذه هي مقَالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملًا حتى يقَال فيه بما قلت؟ قَالَ: نعم. قَالَ الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرنِي عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بعثه اللَّه إلى عباده هل ستر رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا مما أمره اللَّه به في أمر دينهم؟ فَقَال: لا، فقَالَ الشيخ: فدعا رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمة إلى مقَالتك هذه؟ فسكت ابن أَبِي دؤاد، فقَالَ الشيخ: تكلم، فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقَال: يا أمير المؤمنين واحدة.. قال الواثق: واحدة، فقَال الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرنِي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حين أنزل القرآن على رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}، كان اللَّه تعالى الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقَال فيه بمقَالتك هذه، فسكت ابن أبي دؤاد، فقَال الشيخ: أجب يا أَحْمَد فلم يجب، فقَالَ الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان، فقَالَ الواثق: نعم اثنتان. قَالَ الشيخ: يا أَحْمَد أَخْبَرَنِي عن مقَالتك هذه عَلمها رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم جهلها؟ قَالَ ابن أبي دؤاد علمها، قَالَ: فدعا الناس إليها؟ فسكت، قَالَ الشيخ يا أمير المؤمنين: ثلاث.. قَالَ الواثق: ثلاث، فقَالَ الشيخ: يا أَحْمَد فاتسع لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قَالَ: نعم.
تلك هي فتنة (خلق القرآن)؛ صفحة داكنة في تاريخ الأمة حين غلب الهوى على البصيرة، فاستُحيل كلام الله الذي نزل رحمة وهدى إلى سوط يُلهب الظهور وقيد يُثقل الأعناق. يسرد الدكتور أحمد الزبيدي ملامحها فيكشف كيف حوّلت الأهواء جدلًا كلاميًّا إلى محنة تزلزلت لها قلوب العلماء وامتحنت بها الأمة جمعاء. هناك ارتفع صوت الحق في مجلس الواثق، حين قال الشيخ كلمته الفاصلة: إن سكت عنها رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدون، أفلا يسعنا ما وسعهم؟! فسقطت الحجة، وبقي الدرس خالدًا: أنّ العقائد لا تُبنى تحت سياط الجلادين، وأن القرآن كلام الله، كتابُ هدايةٍ لا يُختزل إلى جدلٍ عابثٍ أو سياسةٍ عمياء. تلك العاصفة مرّت، لكن بقايا صداها تذكّرنا بأن الحق يعلو متى استند إلى النور، وأن سلطان الكلمة أبهى وأدوم من سلطان السيف.
دكتورنا الغالي
حبذا لو تكلمت أكثر في المحنة حتى نتأكد من ضلوع المعتزلة فيها أم لا؟
فقد ملاوا الدنيا صراخا وعويلا بأنهم أهل العقل والرأي والتسامح..
نريد أن نتأكد من ذلك بالدليل
ىجزاك الله خيرا مقدماً