مقالات

“عبور الهوى والظلال”  د. قاسم محمد كوفحي – الإمارات

 

د. قاسم محمد كوفحي

 

سواء أأنشدتني محبةً أم صرت خصيمًا من الكارهين للقاءي، فليس فرق عندي بين الحضور والغياب، وبين الأيادي التي امتدت للودّ والأيادي التي انكسرت في صمت. الحب عندي ليس أكثر من هواء عابر، ظلّ يمر بين الأشجار، وضوء يختلط بالظل في طرقات المدينة القديمة، وموجة ترتطم بالصخور قبل أن تعود إلى البحر، وصدى يصعد بين الجدران ويعود حفيفًا في أذن الروح، ليخبرها أن كل ما يجمعنا مؤقت، وكل لحظة لقاء هي عاصفة تمر لتترك خلفها هدير الصمت.

لا حزن لدي على الفراق، ولا ألم في الرحيل، فالقلب وإن احتوى لهيب الشوق، يعلم أن البقاء وهم، وأن الود لا يُخلَّد، وأن كل ميلاد للمحبة يعقبه رحيل، كما تشرق الشمس وتغيب خلف الغيم دون تردد، ودون أسف، ودون تذمر. كل نظرة، وكل همسة، وكل صمت بيننا، هو عبور للهوى، وهو درس في فن الرحيل، وهو عاصفة تحمل في طياتها ضوءًا عابرًا يشبه بريق النجوم في الليالي المظلمة.

ما الحب إلا عابر، وهدية للعين قبل أن يكون للعقل، وهبة للروح قبل أن يكون للجسد، يمرّ علينا، ويعلّمنا الصمت، ويعلمنا أن الرغبة في الاستمرار مجرد وهم، وأن من عاشوا الهوى كانوا مسافرين، لا يستقرون، ولا يحتفظون إلا بالذكرى، وبشظايا الضوء، وبلمعة من العيون التي التقت، وبفارق اللحظة التي تجمعنا قبل أن يبتلعها الغياب، وقبل أن تتحول الكلمات إلى رماد، وتختفي العيون خلف ستار الزمن.

في صمت الليل الطويل، أسمع صدى خطواتك في أزقة المدينة القديمة، أشعر بها في الريح التي تلتف حول المباني المهجورة، وتحمل عبير الماضي، وتذكرني بأن كل ودّ كان بداية لعبور جديد، وأن كل رحيل كان مقدمة لإدراك أننا مجرد ضيوف في زمن الهوى، نأتي ونرحل، نحبّ ونترك الحب يمر كالسحاب فوق السهول، لا يعلق، ولا يستقر، فقط يعلّمنا أن اللحظة كافية لتكون كل شيء.

أحيانًا، يتلبسني صدى كلماتك، فيتحول الليل إلى نهر من المشاعر العائمة، تترنح فيه أفكاري كما تتهاوى أوراق الخريف، وأنا أقف على ضفة الهوى أراقب العابرين من الحنين، من الغياب، من الحب الذي لا يستقر، من الود الذي لا يُخلَّد. كل زهرة تمرّ أمامي كأنها شهادة على عبورنا، وكل شعاع من القمر يخترق نافذة الغرفة يحمل ذكرى اللقاء، وكل ظلّ على الجدار هو صدى لغيمة تمرّ فوق السماء، كأنها تحاكي القلب الذي لا يعرف الثبات.

فلتكن المحبة إذن عبورًا، لا صرحًا، ولا استقرارًا، ولا قيدًا على الروح، بل نسيمًا يمر، يلمس وجوهنا، ويعانق القلوب العابرة، ويعيدنا إلى أنفسنا حين ننسى أننا مجرد مسافرين في طريق الهوى، وأن كل ودّ يبقى ما هو إلا وهج يختلط بالظلال، يضيء الطريق للحظة ثم يختفي في الفضاء، تاركًا لنا المعرفة بأن الفناء في الحب ليس هزيمة، بل إدراك عميق لجمال العابر، ولجلال اللحظة، ولفرادة اللقاء الذي لا يُكرر،و لسطوعه المؤقت كما الشهب في السماء الليلية.

الزمن يمتد بلا نهاية، يمرّ بنا على شكل موجات، كل موجة تحمل ذكرى، كل تردد يحمل ضوءًا عابرًا، وكل صمت يحكي عن لقاء لم يدم. نتعلم من كل موجة أن العابرين ليسوا خصومًا، بل معلمون، أن كل ودّ زائل يعلّمنا قيمة اللحظة، أن كل قلب يمرّ أمامنا يُنير الطريق أمامنا ليعرف قيمة ما هو آتٍ.

والذكريات، تلك الأشباح الجميلة، تتراقص في الهواء كما تتراقص الريح بين الأغصان العارية، تحمل عبق اللقاء، وحنين الخطوات، وحرارة الكلمات، ولمسة الأيدي التي مرت في حياتنا وسكنت للحظة قبل أن تتلاشى، وتعلمنا أن الحب لا يُقاس بالثبات، بل بالمرور، وبالاهتزاز، وبالعابر الذي يترك أثرًا لا يمحى في أعماقنا، في صدى أعماق الروح، وفي كل ظلّ وضياء نلمسه بعد رحيله.

النجوم فوقنا، كل واحدة منها شاهدة على عبور الهوى، وعلى مرور اللحظات العابرة، وعلى خفقات القلوب التي لا تُحصى، وكل لمعة هي رسالة بأن كل شيء مؤقت، وكل ودّ عبور، وكل رحيل بداية لوعي جديد، ولكل قلب أن يرى النور في الظلال، ولكل نفس أن تتحرر من قيود الثبات، لكل روح أن تعرف أن الحب ليس ملكًا، بل عبور، وأن الحياة عبور أيضًا.

وهكذا، تظل الأرواح تتلاقى وتفترق، تمرّ في طرقات المدينة، تنحني للريح، تتمايل مع الضوء، ترقص مع الظلال، تسير مع الزمن، تعرف أن كل هوى عابر، وكل لقاء لحظي، وكل ودّ مؤقت، هو معلمنا الأعظم، هو درس الحياة في الرحيل، هو سر السعادة في الوعي بأن كل لحظة هي كل شيء، وأن العابرون هم من يضيئون الطريق، وهم من يجعلون من الهوى رحلة، ومن كل ودّ عبورًا خالدًا في سماء الروح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى