مقالات

دراسات قرآنية ( 26) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

رد الإمام الرازي على أبي القاسم الكعبي (المعتزلي) (ج9) (خلق القرآن) الحلقة الثانية 

د. أحمد الزبيدي

احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ ومنهم أبو القاسم الكعبي على أن القرآن مخلوق بعدد من الآيات، مثل قوله تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا﴾. [الزُّخْرُفِ: 3].

 فقالوا بأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَجْعُولٌ ، وَالْمَجْعُولُ هُوَ الْمَصْنُوعُ الْمَخْلُوقُ!

والحقيقة إن كلمة (جَعل) في القرآن لها معان عدة .

قال الإمام الراغب الأصفهاني (المتوفى: 502 هـ) في كتابه “المفردات في غريب القرآن” ص196):” جَعَلَ: لفظ عام في الأفعال كلها، ويتصرّف على خمسة أوجه:

الأول: يجري مجرى صار وطفق فلا يتعدّى، نحو جعل زيد يقول كذا ، قال الشاعر:

فَقَدْ جعلتْ قلوصَ بني سُهَيل

مِنْ الأَكْوارِ مرتعُها قَريبُ

قال التبريزي في “شرح الحماسة”: جعلت يمعنى طفقت، ولذلك لا يتعدى (ومرتعها قريب): في موضع الحال أي: أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم لما بها من الإعياء، وقلوص: بالنصب، مفعول أول، ومرتعها قريب: جملة في موضع المفعول الثاني – وقيل: فيها ضمير الشأن، وقيل: هو، على إلغاء جعلت مع تقدمها، لأن الرواية الشهيرة: برفع قلوص.

والثاني: يجري مجرى أوجد، فيتعدّى إلى مفعول واحد نحو قوله عزّ وجل: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ﴾. [الأنعام/ 1] ، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾. [النحل/ 78] .

والثالث: في إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه، نحو: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً﴾. [النحل/ 72] ، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً﴾. [النحل/ 81].

 ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا﴾. [الزخرف/ 10] .

والرابع: في تصيير الشيء على حالة دون حالة، نحو قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً﴾. [البقرة/ 22] ، وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا﴾ [النحل/ 81] ، ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً﴾ [نوح/ 16] ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف/ 3] .

والخامس: الحكم بالشيء على الشيء، حقا كان أو باطلا، فأمّا الحقّ فنحو قوله تعالى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص/ 7] ، وأمّا الباطل فنحو قوله عزّ وجل: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً﴾ [الأنعام/ 136] ، ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ﴾ [النحل/ 57] ، ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر/ 91] .

فلما قال الله تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا﴾. [الزُّخْرُفِ: 3]، أي جعله جعلا ، على معنى فعله فعلا من أفعال الله غير معنى الخلق.

ثم احتجوا بقوله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر:62].

فقالوا: أخبرونا عن القرآن ، هو شيء ؟ قلنا : نعم، هو شيء.

فقالوا: إن الله خالق كل شيء ، فلم لا يكون القرآن من الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء!

فقلنا: إنما سمى الله “شيء” الذي كان يقوله، قال تعالى: ﴿إنما قولنا لشيء ﴾ فالشيء ليس هو قوله ، إنما الشيء الذي له كان يقوله، وفي آية أخرى ﴿إنما أمره﴾ ثم قال : ﴿إذا أراد شيئا﴾ فالشيء ليس أمره إنما الشيء الذي كان يأمره.

قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- ومن الدلالات أنه لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة”. قال الله للريح التي أرسلها على عاد ﴿تدمر كل شيء بأمر ربها ﴾،وقد أتت الريح على أشياء لم تدمرها، وقد قال (تدمر كل شيء) فكذلك إذا قال: ﴿خالق كل شيء﴾، لا يعني نفسه، ولا علمه، ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة، وقال لملكة سبأ : ﴿وأوتيت من كل شيء﴾، وقد كان ملك سليمان شيئا ولم تؤته،  وكذلك إذا قال ﴿خالق كل شيء﴾ لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة. وقال الله لموسى ﴿واصطنعتك لنفسي﴾، ﴿ويحذركم الله نفسه﴾، ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم مافي نفسك﴾، ثم قال : ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾، فقد عرف من عَقل عن الله أنه لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت، وقد ذكر الله عز وجل نفسه. فكذلك إن قوله : ﴿خالق كل شيء﴾ لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة.

واحتجت -المعتزلة- كذلك بقوله تعالى: ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث﴾، فالقرآن-بزعمهم- محدث وكل محدث مخلوق . والصحيح أن الذكر المحدث هنا ذكر الرسول ، وذكر الرسول يجري عليه الحدث ، أما ذكر الله إذا ورد فلا يجري عليه حدث، قال تعالى ﴿ولذكر الله أكبر﴾، ﴿وهذا ذكر مبارك﴾، بينما ذكر الرسول في الآية ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث﴾، أو ﴿ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾، أو ﴿فذكر إن نفعت الذكرى﴾، ﴿فذكر إنما أنت مذكر﴾، فلما اجتمعوا في اسم الذكر، جرى عليهم اسم الحدث، . وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق أو كان أولى بالحدث من ذكر الله إذا انفرد ولم يقع اسم خلق ولا حدث، فوجدنا دلالة من قول الله تعالى ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث﴾، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي كان لا يعلم، فعلمه الله، فكان ذلك محدثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟.

وقد احتجوا أيضًا بقوله تعالى: ﴿إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته﴾، فقالوا : عيسى مخلوق.

ولنا أن نرد عليهم بقولنا: إن عيسى عليه السلام تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، فقد ذكره القرآن مولودًا، وطفلًا، وصبيًا، وغلامًا ، وكهلًا، وذكره يأكل ويشرب، وهو عبد مكلف بالأمر والنهي ، لذا لا يحل لنا أن نقول في القرآن ما قال الله في عيسى، ولكن ما المعنى في تفسير الآية السالفة: الجواب: الكلمة هي التي ألقاها الله إلى مريم حين قال له كنْ ، فكان عيسى عليه والسلام  (بكنْ)، وليس عيسى هو (كنْ). (فالكن) من الله قول، وليس الكن مخلوقا.

قال الإمام الفخر الرازي :” فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ عِيسَى عليه السلام “كَلِمَةً” فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ﴾. [النِّسَاءِ: 171] قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ:

 الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (كُنْ)، مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَبِ، فَلَمَّا كَانَ تَكْوِينُهُ بِمَحْضِ قَوْلِ اللَّهِ كُنْ وَبِمَحْضِ تَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَبِ وَالْبَذْرِ، لَا جَرَمَ سُمِّيَ: “كَلِمَةً”، كَمَا يُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا، وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْمَرْجُوُّ رَجَاءً، وَالْمُشْتَهَى شَهْوَةً، وَهَذَا بَابٌ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ.

 وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الطُّفُولِيَّةِ، وَآتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ فِي زَمَانِ الطُّفُولِيَّةِ، فَكَانَ فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بَالِغًا مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَسُمِّيَ كَلِمَةً بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِثْلُ مَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَإِقْبَالٌ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِيهِمَا.

 وَالثَّالِثُ: أَنَّ “الْكَلِمَةَ” كَمَا أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَعَانِيَ وَالْحَقَائِقَ، كَذَلِكَ عِيسَى كَانَ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقَائِقِ وَالْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَسُمِّيَ: “كَلِمَةً”، بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ تَسْمِيَتِهِ رُوحًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ كَمَا يَحْيَا الْإِنْسَانُ بِالرُّوحِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا فَقَالَ: ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا﴾. [الشُّورَى: 52].

 وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، فَلَمَّا جَاءَ قِيلَ: هَذَا هُوَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ، فَسُمِّيَ “كَلِمَةً” بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالُوا: وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ حُدُوثِ أَمْرٍ فَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ الْأَمْرُ قَالَ: قَدْ جَاءَ قَوْلِي وَجَاءَ كَلَامِي، أَيْ مَا كُنْتُ أَقُولُ وَأَتَكَلَّمُ بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ﴾. [غَافِرٍ: 6] وَقَالَ: ﴿وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ﴾. الزُّمَرِ: 71].

 الْخَامِسُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسَمَّى بِفَضْلِ اللَّهِ وَلُطْفِ اللَّهِ، فَكَذَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ اسْمُهُ الْعَلَمُ: “كَلِمَةَ اللَّهِ”، وَ”رُوحَ اللَّهِ”، وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَصْوَاتٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي جِسْمٍ مَخْصُوصٍ دَالَّةٌ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعَانٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ أَوِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهَا هِيَ ذَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّأْوِيلُ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى