مقالات

   وقفات مع المتنبي (47) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

 

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص194):

ذُو العَقلِ يَشقَى فِي النَعيمِ بِعَقلِهِ

وَأَخو الجَهالَةِ فِي الشَقاوَةِ يَنْعَمُ

وكرره أبو الطيب في قوله:

أَفاضِلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَمَنِ

يَخلو مِنَ الهَمِّ أَخلاهُم مِنَ الفِطَنِ

وقال الإمام القرطبي في تفسيره (ج11: ص168):” وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ؛ أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَتْعَبَ. إشارة للآية الكريمة {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}. [طه: 2]، ثم استدل ببيت المتنبي الذي تقدم.

قال المعري: يقول المتنبي: العاقل وإن كان في النعيم، فإنه لا يتهنّأ به؛ لعلمه بزواله، والجاهل وإن كان في الشقاوة، فهو يتلذذ؛ لجهله بعواقبه.

وما زالت العامة في فلسطين وبلاد الشام تقول: “المجانين في نعيم.!”

قال الإمام ابن الشجري: ” أصل هذا المعنى قول أرسطاطاليس: العقل سبب رداءة العيش”.

وقال أحد الحكماء: ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء؛ وقال المغيرة بن شعبة:

ما العيش إلّا في إلقاء الحشمة، وقال بكر بن المعتمر: إذا كان العقل سبعة أجزاء احتاج إلى جزء من جهل ليقدم على الأمور، فإنّ العاقل أبدًا متوانٍ مترقبّ متوقّف متخوّف.

وقال بشار:

من رَاقَبَ النّاس لَمْ يَظْفَرْ بحاجَتِهِ

وفاز بالطَّيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ

أخذه آخر فقال:

من راقب الناس مات غمّا

وفاز باللذّة الجَسور

ولهذين البيتين قصة طريفة رواها المعافى بن زكريا في كتابه “الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي” (ص364):” قال: “أَخْبَرَنِي جمَاعَة من أَهْل الْأَدَب أَن بشارًا غَضِبَ عَلَى سَلْمٍ الخاسر، وَكَانَ من تلامذته ورُواته، فاستشفع عَلَيْه: بِجَمَاعَة من إخوانه فأتَوْه، فَقَالُوا: جئْنَاك فِي حَاجَة، قَالَ: كُلّ حاجةٍ لَكُمْ مَقْضِيَّة إِلا سَلْمًا، قَالُوا: مَا جئْنَاك إِلا فِي سَلْم فَلَا بُدَّ من أَن ترْضى عَنْهُ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هو ذا فَقَامَ سلْمٌ فَقبل رَأْسَهُ ويَدَيْه، وقَالَ: يَا أَبَا مُعَاذ! خِرِّيجُكَ وأديبك، قَالَ: يَا سَلْم! من الَّذِي يَقُولُ:

من رَاقَبَ النّاس لَمْ يَظْفَرْ بحاجَتِهِ

وفاز بالطَّيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ

قَالَ: أَنْت يَا أَبَا مُعَاذ، جعلني اللَّه فدَاك، قَالَ: فَمن الَّذِي يَقُولُ:

مَنْ رَاقَب النَّاسَ مَاتَ غَمًّا

وفاز باللَّذَّةِ الجَسُورُ

قَالَ: خرِّيجُك يَقُولُ ذَلِك – يَعْنِي نَفسه – فَقَالَ: فتأخُذُ مَعَاني الَّتِي عنيتُ بهَا، وتَعِبْتُ فِي اسْتنباطها، فتكْسُوها ألفاظًا أخفَّ من ألفاظي حَتَّى يُرْوَى مَا تَقُولُ: وَيذْهب شِعرِي، لَا أرْضَى عَنْك أبدا، قَالَ: فَمَا زَالَ يتَضَرَّع إِلَيْهِ ويتشفع لَهُ الْجَمَاعَة حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ”.

وقالوا: “الجاهل ينال أغراضه، ويظفر بأرائه، ويطيع قلبه، ويجرى في عنان هواه، وهو برىء من اللوم، سليم من العيب، مغفور الزّلّات”.

وقال الإمام أبو الفتح بن جني؛ هذا كقولهم: “ما سُرّ عاقل قط”.

قال الجاحظ في “الحيوان” (ج5:ص315):” وهو كقوله: «استراح من لا عقل له».

 ولما عزل عمر بن الخطاب زيادًا عن عمل كان يتولاه له، قال له زياد: “يا أمير المؤمنين أمن عجز أو خيانة؟ فقال: لا من أحدهما، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك”.

 وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: “لو كان للناس كلهم عقول لخربت الدنيا”.

 وقال آخر: “لولا الحمقى لبطل العالم”،  وقال بعضهم: “لو كان الناس كلهم عقلاء ما أكلنا رطبًا ولا شربنا عذبًا. يعني؛ أن العقلاء لا يقدمون على صعود النخيل لاجتناء الرطب، ولا حفر الآبار لاستنباط الماء البارد العذب”، وكانوا يقولون في تقبيح الْعقل: “الْعقل والهم لَا يفترقان”، وَقَالَ ابْن المعتز:

وحلاوة الدُّنْيَا لجاهلها

ومرارة الدُّنْيَا لمن عقلا

وقالوا: “الْعقل كالمرآة المجلوّة، يرى صَاحبهَا مساوئ الدُّنْيَا، فَلَا يزَال فِي صحوه مهموماً مُتَعَذر السرُور، حَتَّى يشرب النَّبِيذ، فَإِذا ابْتَدَأَ بشربه صدئ عقله بِمِقْدَار مَا يشرب، وَإِن أَكثر مِنْهُ غشيه الصدأ كُله، حَتَّى لَا تظهر لَهُ صور تِلْكَ المساوئ، فيفرح ويمرح، والْجهل كالمرآة الصدئة (فَلَا يرى صَاحبهَا إِلَّا مَسْرُورا) قبل الشّرْب وَبعده”.

وذكروا أن ابن المقفع والخليل بن أحمد كانا يحبّان أن يجتمعا، فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلا عقله زائد على علمه، وقال الخليل: وجدت رجلًا علمه فوق عقله.”

قال بعض العلماء: “صدقا؛ فإن الخليل مات حتف أنفه في خص وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنيا عنه حتى قتل أسوأ قِتلة.”

وللمتنبي أيضاً:

والهمُّ يخترمُ الجسيمَ نحافةً

 ويشيب ناصيةَ الصبيِّ ويهرمُ

وله:

تصْفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ

عمّا مضى منها وما يُتوقّعُ

وفي “جمهرة الأمثال” للعسكري بعد أن ذكر بيت المتنبي:

(ذُو الْعقل يشقى فِي النَّعيم بعقله..”

قال: وَقلتُ:

 أواصل الْهم فِي ضيق وَفِي سَعَة

كَأَن بيني وَبَين الْهم أرحاما

إِن الَّذِي عظمت فِي النَّاس همته

رأى السرُور جوىً والوفر إعداما

وَقيل لِلْحسنِ: مَا لنا نرَاك واجماً؟ فَقَالَ: غمي مكتسب من عَقْلِي، وَلَو كنت جَاهِلا لَكُنْت فِي دعة من عيشي.”

وَيَقُولُونَ: “همُّ الدُّنْيَا على الْعَاقِل.”

وقالوا: “استراح الصَّبِي الَّذِي لَا عقل لَهُ فَهُوَ لَا يفكر فِي شَيْء من مُسْتَقْبل الْعَيْش.”

وَرَأى الْحسن-رحمه الله-صبياناً يَلْعَبُونَ، فَقَالَ: “مذ فارقناكم لم نر يَوْمًا طيبًا.”

وَقَالَ الشَّاعِر فِي معنى الأول:

ألف الهموم وساده وتجنبت

كسلان يصبح فِي الْمَنَام ثقيلا

وقد تفنن العلماء في نظم هذا المعنى في أشعارهم.

قال البحتري:

أرى الحِلمْ بؤساً في المعيشةِ للفتى

 ولا عيشَ إِلا ما حباكَ به الجَهْلُ

وقال أبو نصر بن نباتة:

 من لي بعيش الأغبياء فإنه

 لا عيش إلا عيش من لم يعلم

 قال القاضي أبو الحسن الجرجاني  في “الوساطة” (ص173):”

وسابق هذه الحلبة ابن المعتز في قوله:

 وحلاوة الدنيا لجاهلها

ومرارة الدنيا لمن عقلا

 وأحسن ابن ميكال في قوله:

 العقل عن درك المطالب عقلة

عجبًا لأمر العاقل المعقول

 وأخو الدراية والنباهة متعب

 والعيش عيش الجاهل المجهول

وقال أبو نصر بن نباتة:

 من لي بعيش الأغبياء فإنه

 لا عيش إلا عيش من لم يعلم

 وقالت القدماء:”ثمرة الدنيا السرور وما سر عاقل قد يراد بتفكره في العواقب وتخوفه إياها”، على أن أول من طرق هذا المعنى-في ظني- هو امْرُؤ الْقَيْس حين قال “ديوان امرئ القيس”-(ص135):

ألا عِمْ صَبَاحاً أيّهَا الطّلَلُ البَالي

 وَهل يَعِمنْ مَن في العُصُرِ الخالي

قال الجاحظ في “الحيوان” (ج5:ص315):”ويحكى أن المنصور كان يعجبه النصف الأخير من البيت الثاني جدّا، ويتمثل به كثيرا”.

وقال الأستاذ عبد الله الطيب “المرشد” (ج3:ص469): “وقد اضطرب الشراح في «من هذه» إذ الشاعر يتحدث عن طلل، قال صاحب “الخزانة”: «وقوله: وهل يعمن، هو استفهام إنكاري استشهد به ابن هشام في “شرح الألفية”، على أن من يستعمل في غير العقلاء. وقال العسكري في كتاب “التصحيف”: “اختلفوا في معناه لا في لفظه، فقال الأصعمي: اللفظ على مذهب أنت يا طلل قد تفرق أهلك وذهبوا، فكيف تنعم بعدهم؟ أو المعنى، كيف أنعم أنا فكأنه يعني أهل الطلل».

قلت: وكلام الأصمعي نص شاهد في الذي نذهب إليه من أن امرأ القيس لم يعن بالطلل إلا نفسه وذكرياته ويدخل فيها عهد الطلل وأهله. تأمل قوله: «كيف أنعم أنا فكأنه يعني أهل الطلل».

والمعنى: فكيف ينعم من كان زمان نعمته في العصر الذي خلا، وكيف ينعم من ليس له عهد بحبيب أو أنيس في هذه الثلاثين شهرًا التي مضت منذ ثلاثة أحوال، ودأب العرب في التفرق دون العام أو العام من الموسم إلى الموسم؟ ومن فسر الأحوال بجمع الحال لا الحول وهْم لا ريب…”

 أو كما قال في الرواية التي لم يذكرها صاحب الدواوين الستة:

ألا إنني بالٍ على جملٍ بال

يسير بنا بالٍ ويتبعنا بالِ

وهي في الديوان الذي جمعه “السندوبي”، والسياق يشعر بصحته لامرئ القيس وإن لم يكن له وكان منتحلاً فهو بمنزلة الشرح والتفسير.

يكون من أوصاف الجنة لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لا توجد إلا في الجنة”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم دكتور أحمد,
    الله يديم العقول لأصحابها ولولا جهل الجهلاء لما ذقنا حلاوة الدنيا
    هون عليك للعقول نهايه كما لكل شئ خاتمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى