مقالات

وقفات مع المتنبي (49) د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص395):

مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ

تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ

وقبله:

أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني

ما لَيسَ يَبلُغُهُ في نَفسِهِ الزَمَنُ

وفي رواية ثانية -ولا أقطع بصحتها- :

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي (السَّفِن)

والرواية الأولى المشهورة جمع (سفينة) .. فهو يصور السفينة بمشاعر الإنسان أنها تخاف من الرياح حتى أنها (الرياح) تغير من مسارها و (أهوائها) وما تشتهيه، أما الثانية فهو الراكب على السفينة يسمى (السَّفِن) والإنسان الراكب على السفينة يخشى تغير الرياح .

وقد عبر الإمام الدَّميري-رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله:

“والدهر يعكس ما أُؤمله، وأرجوه من البسطة والرفعة؛ حتى أقنع من الغنيمة بالرجوع بعد التعب والمشقة، وهذا المثل يضرب لمن مسعاه، وطال سفره، وتمنى العود إلى بلده، نعوذ بالله من هذه الحالة، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوّذ من طمع في غير مطمع، ومن طمع يعود إلى طبع، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: “اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد”، والدهر ما زال يعكس المقاصد، ويراقب الخيبة، ويُراصد، فقد تدنو المقاصد والأماني، فتعترض الحوادث والمنون، والشعراء أكثروا من هذا المعنى”.

قال البغدادي صاحب “خزانة الأدب” (ج4:ص237): “إنَّ المرء لا يحصل له كلّ متمنياته وجميع أمانيه، بل إنما يحصل بعصها دون بعض، بريد: إنَّ أعدائي لا يدركون ما يتمنون بي، فالرياح لا تجري كلّها على ما تريد السفن، يعني أهلها.

ولقد أجاد أبو الفتح علي بن محمد البستي في قوله:

مَا كُلُّ مَاءٍ كَصَداءً لِوَارِدهِ

نَعَم، وَلَا كُلُّ نَبتٍ فَهوَ سَعدَانُ

وقال بَشَّارٌ:

مَا كُلُّ مَا يَهَوى الفَتَى كَائنٌ

حَظًّا وَلَا كُلُّ مَخوفٍ حِمَامُ

وقال َعْدَهُ:

قَدْ يُخْطِئُ الرَّامِي صِفَاحَ المَهَا

 وَيَقْصِدُ الرَّمْيَةُ مِنْ غَيْرِ رَامِ

وقال البَبَّغَاءُ:

مَا كُلُّ مُتَّسِعِ الأَخلَاقِ مُبتَسِمٌ

للخَطبِ إِنْ ضَاقَتْ الأَخلَاقُ والحِيلُ

وقال بَعْدَهُ:

يَسْعَى بِهِ الرّزْقُ إِلَّا أَنَّهُ فَرَسٌ

فِي صُوْرَةِ المَوْتِ إِلَّا أَنَّهُ رَجُلُ

ولأبي محمَّد الْخَازِنُ:

مَا كُلُّ مَرعًى كَسَعدانٍ وَكُلُّ

فتًى كَمَالِكٍ لَا وَلَا مَاءٍ كَصَداءِ

وللريح سمة خاصة في الشعر العربي القديم، تختلف من شاعر لآخر، فريح المتنبي تختلف عن ريح عنترة بن شداد؛ الذي كان يرى فيها أنها تهجم على أطلال محبوبته فتغير معالمها، وتطمس آثارها، قال عنترة :

 لِمَن طَلَلٌ بِوادي الرَملِ بالي

مَحَت آثارَهُ ريحُ الشَمالِ

أما ريح عَبيد بن الأبرص فقد بلغت مكانة علية؛ فهي سر الحياة، قال عبيد:

هَل نَحنُ إِلّا كَأَجسادٍ تَمُرُّ بِها

 تَحتَ التُرابِ وَأَرواحٍ كَأَرواحِ

وهذا البيت من قصيدة فلسفية جميلة؛ تصور نظرته الفلسفية في الموت والحياة من وجهة نظره.

وقد تغيرت نظرة الشعراء المتأخرين في الريح عن سابقيهم في العهد الجاهلي، فها هو أبو تمام يُلبسها لباس البطش والقوة والقسوة، فهي إذا نزلت بساحة (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ).

قال أبو تمام:

 إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت

عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

والعاصف هو الشديد، قال الشاعر:

حتى إذا عصفت ريح مزعزعة

 فيها قطار ورعد صوته زجل

وفي التنزيل الحكيم:

{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يُونُس: 22-23] .

وقد رأى شاعر آخر أن هبوب الريح أشبه ما تكون بهبوب فرص الحياة، فقال:

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

 فعقبى كلّ خافقةٍ سكون

ولا تقعد عن الإحسان فيها

فلا تدري السكون متى يكون

وقال آخر:

وكلّ ريحٍ لها هبوبٌ

 يوماً فلا بدّ من ركود

وقال آخر:

والرّيح ترجع عاصفاً

 من بعد ما ابتدأت نسيما

وقال ابن الرومي:

لا تطفئنّ جوىً بلومٍ إنه

 كالرّيح تغري النّار بالإحراق

قال الشيخ المنتصر الكتاني في تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) (ص179):” كان أسلافنا في السنوات الماضية لا يسافرون إلا بواسطة الرياح، ولا يبتغون الرزق والتجارة إلا بها.

فإن جاءت الرياح موافقة حيث شاء الركبان والمسافرون فهي المباركة، وإن وقفت الرياح وقفت السفن، فلا رحلة ولا سفر ولا تنقل.

وإن جاءت معاكسة لاتجاه السفن جاء البلاء، فقد تعود بالسفينة من حيث خرجت، وقد تكون قد قطعت شهراً أو أكثر في البحار وإذا بها وقد أتتها الرياح معاكسة تعود بها من حيث بدأت، وخرجت من حيث كانت.

ومن هنا يقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

والرياح تجري عادة بمشتهاها ومبتغاها، فقد تكون مشرقية أو مغربية، جنوبية أو شمالية، فإذا جاءت معاكسة لخط السير وجريان السفن فهو البلاء والخطر على السفينة، وأقل ذلك البلاء أن تعود السفن من حيث خرجت.

وأشد البلاء أن تقف بها الرياح فتتلاعب بها الأمواج وتتلاطم، وإذا هو الغرق أو الخطر والإنذار بالغرق.

وقوله تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} [الروم:46] الله تعالى يرسل الرياح ليذيق الناس من رحمته، وهي خيره وبركته ورزقه.

ويرسل الرياح لتجري الفلك بأمره، وإذنه وإرادته حيث شاء من مشرق أو مغرب.

نادرة:

جاء في كتاب “بيان المعاني”: (ج5: ص211):”: – نزل السلطان سليم الأول العثماني -رحمه الله- في قارب يريد العبور من الآستانة إلى اسكدار، وكان معه أستاذه شيخ الإسلام العلامة شمس الدين أحمد چلبي الشهير بابن كمال، فخاطبه السلطان أثناء جريان القارب فيها بقوله:

فيمَ اقتحامكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ

وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ

فأجابه فورا من بحر بيته بقوله:

أريد بسطة كف أستعين بها

على قضاء حقوق للملا قبلي

والبيتان كلاهما للطغرائي.

وقد اكثر أبو الطيب من إيراد هذا المعنى في شعره. قال:

أَهُمُّ بِشَيءٍ وَاللَيالي كَأَنَّها

 تُطارِدُني عَن كَونِهِ وَأُطارِدُ

وقال ابن القيسراني :

إلى كم أسومُ الدَّهرَ غير طباعه

وأصدُقُهُ عن شيمتي وهو حانثُ

وأسمو مُجدَّاً في العُلى وتَحُطُّني

 خطوبٌ كأنَّ الدهرَ فيهنَّ عابثُ

حكاية :

حكى الخالديان في اختيار شعر مسلم بن الوليد أنه كان في بعض أطراف البصرة رجل يخيف السبيل، فأعيى أمره السلطان، ثم ظفر به، فأمر بقتله، وصلبه، فلما قُدِّم لذلك قال للموكَّل به: إن رأيت أن تتوقف عني قليلاً، وتأتيني بقرطاس ودواة أكتب شيئا في قلبي، فإذا فرغت من ذلك فشأنك وما أُمِرت به، فأجابه إلى ما سأل، ثم لمَّا كتب قال للمُوكَّل: إفعل ما بدا لك، فنظر الموكل في الرقعة فإذا فيها مكتوب:

قالت سُليمى كم تمَنينا

 وعدُكَ وعدُ ليس يأتينا

يا قانِعاً بالدُّون من عيشهِ

حتى متى تُصبحُ محزونا

فحركت أشرس ذا مرّةٍ

من بعد ثنتين وخمسينا

إنْ كنتُ قصَّرتُ ولم أجتهدْ

 في طلب الرزق فلومينا

وأيُّ بابٍ يُرتجى فتحُهُ

 وما قرعناهُ بأيدينا

ما قصَّرَ السعي ولكنها

مقادرٌ جاريةٌ فينا

فرفع قصته إلى مَنْ أمر بقتله؛ فأمر بإطلاقه، وصفح عنه.

حكاية ثانية:

خرج الوزير نظام الملك إلى الصلاة فجلس قليلا ثم التفت إلى الحاضرين، وقال: هنا بيت شعر أريد له أولا، وهو:

فكأنني وكأنه وكأنها

 أمل ونيل حال بينهما القضا

وكان في الجماعة أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي الشافعي، فقال:

أفدي حبيباً زارني مُتنكراً

فبدا الوشاة له فولّى مُعرضا

وإذا كان المتنبي رحمه الله يرى أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فإن غيره قد أفرط في التشاؤم ورأى أنه إن تمنى شرا قرَّبه، وإنْ تمنى خيرا قلّبه، وقد عبر المتنبي عن هذا بقوله:

وَأَحسَبُ أَنّي لَو هَويتُ فِراقَكُم

 لَفارَقتُكم وَالدَهرُ أَخبَثُ صاحِبِ

فَيا لَيتَ ما بَيني وَبَينَ أَحِبَّتي

مِنَ البُعدِ ما بَيني وَبَينَ المَصائِبِ

وقال ابن دقيق العيد شيخ الإسلام:

الحمدُ لله كَمْ أسْمُو بِعزميَ فِي

نَيْل العُلاَ وَقَضاءُ الله ينْكسُه

كَأَنَّني البَدْرُ يبغى الشرقَ والفلكُ الـ

 أعلى يعارضُ مسراه فيعكسه

يقال: من نكد الوجود أنْ يرى الإنسان في منامه أنه وجد مالاً، أو أصاب جوهرا، أو ظفر بخير، فإذا انتبه لم ير من ذلك شيئا، وربما يرى شرا، فإن انتبه كان ذلك يقينا.

وللشاعر سبط بن التعاويذي:

أَرى في مَنامي كُلَّ شَيءٍ يسوءني

 وَرُؤيايَ بَعدَ النَومِ أَدهى وَأَقبَحُ

فَإِن كانَ خَيراً فَهُوَ أَضغاثُ حالِمٍ

وَإِن كانَ شَرّاً جاءَني قَبلِ أُصبِحُ

وقال فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري:

إلى اللهِ أشْكو أنّني كلَّ ليلةٍ

إذا نِمْتُ لم أعْدَمْ خواطِرَ أوْهامي

فإنْ كان شرّاً فهْوَ لا بُدّ واقِعٌ

وإنْ كان خَيْراً فهْوَ أضْغاثُ أحلام

وقال الأحنف العكبري :

وأحلم في المنام بكل خير

 فأصبح لا أراه ولا يراني

ولو أبصرت شراً في منامي

لوافى الشر من قبل الأذان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى