مقالات

سطوة اللغة .. أزمة أم حل؟! د. محمود بكري الأمين – الإمارات

د. محمود بكري الأمين

تمتاز اللغة العربية بأنها لغة المجاز بامتياز، فبكلمات قليلة يتسع فضاء التأويل، ويزداد المعنى رحابة، كما أن لموسيقاها الداخلية وإيقاعاتها- وهي لغة غنائية إن جاز لنا قول هذا – دورًا في طرب النفس، فيجتمع إبحار العقل في المعنى بطرب النفس لإيقاع العبارات، فتأخذ بلب الفطن العاشق لها، وقد تبدو هذه السطوة فتنة رائقة، ولكنها قد تكون سبب الأزمة.

غالبًا بوعي وبدون وعي نرزح تحت فتنة اللغة وسطوتها وجمالها، فنجنح إلى الإيغال في تحبير العبارات (وتذويقها)، ونلهث خلف المعاني الدقيقة والبعيدة أحيانًا، واللغة العربية تساعد في هذا، فالمعاني مطروحة على الطريق كما يقول الجاحظ، والألفاظ حدِّث ولا حرج، والبلاغة متسعة باتساع خيال البشر، هذا كله يؤدي بنا إلى الرضوخ إلى الجماليات التي نطرب لها، ونبتعد عن الدقة العلمية، بل ربما أخذنا الحديث في الجماليات – دون إدراك – ونبتعد عن جادة حديثنا.

ولعل إرثنا اللغوي الكبير كان له الدور الكبير في دخولنا إلى دهاليز جماليات اللغة، والغرق فيها، فمنذ رفع الشاعر العربي القديم عقيرته بالشعر، مستمدًا أبياته من خياله المتسع باتساع الصحراء الممتدة أمامه إلى ما لا نهاية، وحتى الآن واللغة مهما ضاقت العبارة يتسع فضاء التأويل، ورحابة المعنى؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم “إن من البيان لسحرًا”

والنص الوحيد الذي أفلت من هذه السطوة وهذه الفتنة هو النص القرآني؛ لأنه نص فوقي، أعلى من اللغة وبلاغتها وفتنتها، لإنه ببساطة شديدة هو نص إلهي؛ لذلك ضرب من المستحيل أن يكون القرآن الكريم كلامًا بشريًا، استطاع القرآن، وهو نص فيزيقي وميتافيزيقي في الآن ذاته، أن يجمع بين دقة الدال واتساع المدلول، مع تاريخانية التأويل، في إيقاع فريد من نوعه، فغدا نصًا عابرًا للزمان والمكان، ولعل هذا ما أطلق عليه علماء الأصول المحكم والمتشابه، إلى غير ذلك من اصطلاحاتهم اللغوية الدقيقة.
الأزمة لم تعد اتساع المدلول ورحابة المعنى، الأزمة صارت في سطوة اللغة التي تغرقنا في جمالياتها فننحو باتجاه الجمال ونترك الإقناع يندب حظه، على الرغم من أن البلاغة الجديدة وضعت الإقناع في المرتبة الأولى من موضوعاتها.

ويبقى التساؤل: ما الحل؟ هل نترك البلاغة وجمالياتها وعلومها؟ بالطبع كلا، كلا، وإنما نبقى في إدراك سطوة اللغة وفتنتها في اللحظة الحاسمة، وأن نسيطر على اللغة بدلا من أن تسيطر هي، وهذا يحتاج إلى جهد جهيد، واطلاع واسع حتى نتمكن من ناصية اللغة، ونجعلها طيعة، علمية، دقيقة، مكثفة، حتى أنا أخشى أن أكون قد وقعت في فخ سطوتها دون وعي في كتابة هذه المقالة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى