مقالات

وقفات مع المتنبي (49) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص128):

وَرْدٌ إذا ورَدَ البحيرةَ شارباً

ورَدَ الفرات زئيره والنيلا

الوَرْد: الأسد، سمي بذلك لأن لونه يضرب إلى الحمرة, وبالغ أبو الطيب-رحمه الله- في تعظيم الأسد وعلو زئيره، فزعم أنه إذا ورد البحيرة سمع زئيره في الأرض التي فيها الفرات والتي فيها النيل.

قال الأستاذ الناقد الراحل إحسان عباس في “تاريخ النقد الأدبي” (ص307):”وقد يتشدد -ابن وكيع- أكثر من الحاتمي في التضييق من حدود الفهم للمعنى، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تعليقه على قول المتنبي:

وردٌ إذا ورد البحيرةَ شارباً

بلغ الفرات زئيره والنيلا..”

يقول: “وتعظيم زئيره جيد، وليس لصوت زئيرهِ في الماء إلا ما له في البر مع عدم الماء، فكيف اقتصر على ذكر البحيرة والفرات والنيل، أتراه لا يسمع إلا في ماء “.

قال إحسان عباس: “وهذا تضييق في الفهم، فإن وحدة الصورة المائية على جمالها في البيت لا تعني أن زئير الأسد لا يُسمع إلا في الماء، ولكنه إذا زأر عند بحيرة طبرية وصل صوت زئيره – في البر – حد الفرات شمالاً والنيل جنوباً”.

وقد أجاد أبو الطيب، فترجمت أشعاره إلى اللغات الأوروبية، حتى تأثر به الشاعر الإنجليزي الرومنطيقي وليم بليك المتوفى (1827م).

وعلى الرغم مما يقال عن عدم تأثر الشاعر الرومانسي وليم بلاك بالمتنبي، نظرًا لكونهما ينتميان إلى فترتين ثقافيتين مختلفتين، وبيئتين جغرافيتين متباعدتين، إلا أن د. عبد الله الطيب-رحمه الله- أثبت في كتابه “الطبيعة عند المتنبي” (ص12) من خلال ما أجراه من مقابلات بين النصوص تأثر بلاك في المتنبي وتتبعه لمعانيه. قال عبد الله الطيب:” والذي يدعو إلى هذا الظن ما في قصيدة وليم بلاك من تتبع معاني أبي الطيب في صفة عيني الأسد، وهيئة تبهنسه بمشيته وتجمعه وزمجرته ليثب، وشجاعة قلبه، وقلة اكتراثه، بالعدد الكثير، وتوهم أبي الطيب ان عنده معايير من قضايا النبل الذي يأبى الدنية من مضض العار..”.

وقد أكثر أبو الطيب-رحمه الله- من ذكر الحيوان المفترس (الأسد) في شعره، فقد ذكره في شعره مرات عديدة، في مناسبات مختلفة.

ومن فقه المتنبي في اللغة العربية، وتضلعه في أسرارها، وسعة باعه  في علومها؛ ما تجده من تفنن في ذكر الأسد بأسمائه المختلفة كل بحسب مقامه وموضوعه. فمرة يذكره باسمه المشهور (الأسد)، فقال:

فما ينفع الاُسْد الحياء من الطّوى

ولا تتّقى حتّى تكون ضواريا

ومرة يذكره باسم “الضيغم”:

إلى القابض الأرواح والضيغم الذي

تحدث عن وقفاته الخيل والرجل

والضغم وهو العض.

ومرة يذكره باسم ” الليث” و “الهِزَبْر”:

 أمعفر الليث الهزبر بسوطه

 لمن ادخرت الصارم المصقولا

“الهِزَبْر”: الغليظُ الضَّخْمُ، والشديدُ الصُّلْبُ.

ومرة يذكره باسم ” الغِضَنْفَر” و “الرّئبال”:

 كلّ غادٍ لحاجةٍ يتمنّى

 أن يكون الغضنفر الرّئبالا

وَالْجَمْعُ “الرَّآبل” و”الرَّيابِيلُ”، عَلَى الْهَمْزِ وَتَرْكِهِ. وَذِئْبٌ رِئْبَالٌ ولِصٌّ رِئْبَال: وَهُوَ مِنَ الجُرْأَة

ومرة يذكره باسم ا”لعَفَرْنَي” فقال:

بنو العفرني محطة الأسد

ولكن رماحها الأجم

“العَفَرْنَى”: الغليظ العُنُقِ الشديد القوي. يقال: أسد عَفَرْنَى، ولبوة عفرناه، بالهاء.

ومرة باسم “الضُّبارِمُ”:

 فلله وقتٌ ذوّب الغشّ ناره

فلم يبق إلاّ صارمٌ أو ضُبارم

الضُّبارِمُ، بِالضَّمِّ: الشديدُ الخَلْق مِنَ الأُسْد

ومرة باسم “السَّبُع”:

إنّ السّلاح جميع النّاس تحمله

وليس كلّ ذوات المخلب السبعُ

ومرة باسم “الضِّرْغام “، فقال:

ومن يجعل الضِّرْغام للصّيد بازه

تصيّده الضّرغام فيما تصيّدا

“الضِّرْغام”: هُوَ الضَّارِي الشديدُ المِقْدام مِنَ الأُسود

وأخيرا ذكره بكنيته، تقديرًا لمكانته، وتشريفا لمنزلته:

يردّ أبو الشّبل الخميس عن ابنه

ويُسلمه عند الولادة للنّمل

فهذا ما تحصل لي من أسماء للأسد عند مطالعة ديوان المتنبي.

وقد وصف نفسه رحمه الله بالأسد فقال:

فارم بي ما أردت منّي فإنّي

أسد القلب آدميّ الرّواء

يقول: كلفني ما شئت من الأمور العظيمة، فإني وإن كنت في المنظر آدمياً فإن قلبي قلب الأسد.

وقد شبه ممدوحيه كذلك بالأسد، فقال:

 أسدٌ، دم الأسد الهزبر خضابه

موتٌ، فريص الموت منه يرعد

يقول: هو أسد عادته قتل الأسود، فدم الأسد القوي خضابه الذي يتخضب به عند قتله إياه، وهو أيضاً موت، لإفنائه الأعداء، وترعد منه: أي الموت يفزع منه.

وللأسد أسماء كثيرة، أوصلها العلامة ابن خالويه إلى خمسمائة اسم وصفة، وزاد عليه اللغوي علي بن قاسم بن جعفر (مائة وثلاثين) اسما، وللإمام السيوطي رسالة (فطام اللسد في أسماء الأسد)، ولم أقف عليها، ولصاحب القاموس كتاب سماه “الروض المسلوف، فيما له، اسمان إلى الألوف” . قال الرافعي: “ولم يعثر عليه أحد ولا رأينا منه مادة منقولة في كتاب من الكتب”.

ومن أشهر أسمائه: “أسامة”، و”البيهس”، و”النآج”، و”الجخدب”، و”الحارث”، و”حيدرة”، و”الدوّاس”، و”الرئبال”، و”زفر”، و”السبع”، و”الصّعب”، و”الضّرغام” ،و”الضّيغم”، و”الطيثار”، و”العنبس”، و”الغضنفر”، و”الفرافصة”، و”القسورة”، و”كهمس”، و”الليث”، و”المتأنَّس”، و”المتهيَّب”، و”الهرماس”، و”الورد”.

ومن كناه: أبو الأبطال، وأبو حفص، وأبو الأخياف، وأبو الزعفران، وأبو شبل، وأبو العباس، وأبو الحارث.

وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، غير انه لم يأت من أسماء للأسد في القرآن إلا اسم “قسورة”، فقد ورد ذكره في الآية (51) من سورة المدثر. قال تعالى : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}.

فقد وصف الله سبحانه حال المشركين إذا رأَوا محمدًا صَلَّى اللَّه عليه وسلم أنهم يفرون منه، كما يفرُّ الحمار مِن الْأَسد.

قال ابن عباسٍ: “الْقَسْوَرَةُ”، هي الأسد بلسان الحبشة.

ولا يخفى أن منزلة الأسد من الحيوانات منزلة الملك المهاب، لقوته، وشجاعته، ولذلك ضربت به العرب المثل في القوّة، والنجدة، والشجاعة، والبسالة، والبأس .

وفي صجيح البخاري (3142) أن أبا بكر رضي الله عنه لقب أبا قتادة رضي الله عنه يوم حنين بـ “أسد الله” .

وفي مصنف ابن أبي شيبة (6/382) أن حمزة -رضي الله عنه- لُقّب بـذلك قبله.

وقال العلماء: من نُبل الأسد أنه اشتق لحمزة بن عبد المطلب ولأبي قتادة -فارس النبي- صلى الله عليه وسلم من اسمه.

ومن شرف نفسه أنه لا يشرب من ماء ولغ فيه كلب: وقد أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:

 وأترك حبّها من غير بغض

 وذاك لكثرة الشركاء فيه

 إذا وقع الذباب على طعام

 رفعت يدي ونفسي تشتهيه

 وتجتنب الأسود ورود ماء

 إذا كان الكلاب ولغن فيه

روى إسحاق بن إبراهيم بن سنين أبو القاسم الخَتْلي (المتوفى: 283هـ)، في كتاب الديباج(ص112):”عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنه خرج في بعض أسفاره، فبينما هو يسير إذ هو بقوم وقوف، فقال: ما لهؤلاء القوم؟ قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم، فنزل عن دابته ثم مشى إليه حتى أخذ بأذنه، ونحاه عن الطريق، ثم قال له: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما سلطت على ابن آدم لمخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله تعالى لم تسلط عليه ولو لم يرج إلا الله تبارك وتعالى لما وكله إلى غيره”.

وفي “شرح سنن أبي داود” لابن رسلان (2698) :” عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض وكأن رأسه يقطر، ولم يصبه بلل، وأنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات ولا يضر بعضهم بعضا؛ ثم يبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه.

روى ابن الشجري بإسناده إلى بديع الزمان الهمذاني، قصيدة بشر ابن عوانة الأسدي، التي مطلعها:

أفاطم لو شهدت ببطن خبت

وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

وقال: “إن أجود شعر قيل في لقاء الأسد، من الشعر القديم هذه القصيدة”.

وقال صاحب “المثل السائر” (ج3:ص284):” وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثله، وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها”.

غير أن د.مصطفى الشّكعة-رحمه الله- في “مناهج التأليف عند العلماء العرب” (ص 396) يرى أن بشر بن عوانة شخصية وهمية، اخترعها بديع الزمان في مقاماته، وأجرى على لسانها هذه الأبيات.

وقد سبق إلى هذا التنبيه العلامة خير الدين الزِركلي في كتابه “الأعلام” (ج2:ص27) رحمه الله رحمة واسعة.

وقد فاضل ابن الأثير-رحمه الله- بين قصيدة أبي الطيب المتنبي التي قالها في بدر بن عمار؛ لما خرج إلى أسد فهرب الأسد منه، وكان قد خرج قبله إلى أسد آخر فهاجه عن بقرة افترسها بعد أن شبع وثقل، فوثب إلى كفل قوسه، فأعجله عن سل سيفه، فضربه بالسوط فمرغه في التراب، فأحاط به الجيش فقتله، ومطلعها :

أمعفر الليث الهزبر بسوطه

لمن ادخرت الصارم المصقولا

ورد إذا ورد البحيرة شاربا

ورد الفرات زئيره والنيلا

وقصيدة البحتري التي مدح فيها عبد الله بن دينار ووصف مبارزته للأسد، ومطلعها:

وما تنقم الحساد إلا أصالة

لديك وعزمًا أريحيًا مهذبا

وقد جربوا بالأمس منك عزيمة

فضلت بها السيف الحسام المجربا

ثم قال: ” وسأحكم بين هاتين القصيدتين، والذي يشهد به الحق وتتقيه العصبية أذكره، وهو أن معاني أبي الطيب أكثر عددًا، وأسد مقصدًا، ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح في تشبيهه بالأسد مرة، وتفضيله عليه أخرى، ولم يأت بشيء سوى ذلك، وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد، وهو قوله:

أمعفر الليث الهزبر بسوطه … لمن ادخرت الصارم المصقولا؟

ثم إنه تفنن في ذكر الأسد، فوصف صورته وهيئته، ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي هيئه مشيه واختياله، ووصف خلق نجله مع شجاعته، وشبه الممدوح به في الشجاعة، وفضله عليه بالسخاء، ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي بعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك في أحسن مخرج، وأبرزه في أشرف معنى.

وإذا تأمل العارف بهذه الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه.

والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفاظ وطلاوة السبك، فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى