مقالات

  وقفات مع المتنبي (50) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 

فلسفة الشرف عند أبي الطيبب

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص194):

لا يسلَم الشّرفُ الرّفيعُ من الأذى

حتى يُراقَ على جوانِبه الدّمُ

أراد: لا يسلم للشريف شرفه؛ من أذى الحسّاد، والأعداء، حتى يقتل حسّاده وأعداءه، فإذا أراق دماءهم سلم له شرفه، فإنه إنما يصير مهيبا بالغلبة.

قال أبو الفتح ابن جني: أشهد بالله لو لم يقل غير هذا البيت لتقدم به أكثر المحدثين. قلت: وأكثر المتقدمين .

وقد رأى بعض الأدباء في قول أبي الطيب المتنبي هذا تحريضًا على القتل! ولكن لا بما نفهمه اليوم عن هذا المعنى، بل بما كان يفهمه الرجال الشرفاء، وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله:

كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا

وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذّيُوْلِ

قال أبو العلاء المعري في “اللامع العزيزي” عن بيت المتنبي السالف (ص1286):” هذا حثٌّ على القتل، وهو نحو من قوله: [الطويل]

وأن ترد الماء الذي شطره دم

فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم

والدم: اسم ناقص قد ذهبت منه الياء، وقالوا في التثنية: دميان, وقالوا في الجمع: دماء، وأصله دماي، فلما وقعت الياء طرفًًا وقبلها ألف قلبت همزة. وحكى أبو زيد: دمًا في وزن رحى فكان يذهب إلى أن الدم في قول القائل: [الطويل]

ولكن على أقدامنا يقطر الدّما…

فاعل يقطر، وكان غيره ينشد: تقطر بالتاء, ويجعل الألف في آخر البيت للترنم, وهي في رأي أبي زيد أصلية.

ولله در الإمام الكبير الأوحد عبد القاهر الجرجاني، فقد رأى في هذا البيت ما لم يره أحد غيره من العلماء ، قال عنه:” معنًى معقولٌ، لم يزل العُقلاءُ يَقْضون بصحّته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذَ بسنَّته، وبه جاءت أوامِر اللَّه سبحانه، وعليه جَرَت الأحكام الشرعية والسّنَن النبوية، وبه استقام لأهل الدِّين دينهم، وانتفى عنهم أذَى مَن يَفْتِنهم ويَضيرُهم، إذ كان موضوع الجبلَّة على أن لا تخلو الدنيا من الطُغاة المارِدين، والغُواة المعاندين، الذين لا يَعُونَ الحكمة فَتَرْدَعَهم، ولا يَتَصوَّرون الرشدَ فيكُفَّهم النُّصْحُ ويمنعهم، ولا يُحسّون بنقائص الغَيّ والضلال، وما في الجَوْر والظلم من الضَّعة والخَبال، فيجِدوا لذلك مَسَّ أَلَمٍ يحبِسُهم علَى الأمر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسِّباع، لا يوجعهم إلاّ ما يَخْرِق الأبشار من حَدّ الحديد، وسَطْو البأس الشديد، فلو لم تُطبَع لأمثالهم السيوف، ولم تُطلَق فيهم الحتوف، لما استقام دينٌ ولا دنيَا، ولا نال أهلُ الشرف ما نالوه من الرتبة العليا، فلا يطيب الشُرب من مَنْهلٍ لم تُنفَ عنه الأَقذاء، ولا تَقَرُّ الروح في بدنٍ لم تُدفَع عنه الأَدواء”.

رحم الله أبا بكر الجرجاني، فكأنه كان يطّلعُ من وراء سجف الغيب إلى ما يحدث الآن في غزة العزة يسمع ويرى.

وعلى كثرة المُحتفين بهذا البيت، والمحتفلين بمعناه، رأيت كلاما للأديب اللبناني أمين الريحاني في كتابه “الريحانيات” يتمنى فيه أن لو لم يوجد هذا البيت في شعر المتنبي وأنه لم يراه، قال:” فحبذا لو حُذف هذا البيت من ديوان المتنبي، حبذا لو عدل الشعراء والكتاب والخطباء عن التمثُّل به والعود إليه، حبذا لو أَمْعَنَّا النظر قليلًا في الأشعار التي نستشهد بها والحِكَم التي ننقلها، أيجب أن تكون شرائعُنا الأدبية اليوم كشرائع أجدادنا الناقصة ؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى