مكانة الخيل عند أبي الطيب

د. أحمد الزبيدي
قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “شرح الواحدي” (ص329):
وما الخَيْلُ إِلاَّ كالصَّدِيْقِ قَلِيْلَةٌ
وإِنْ كَثُرَتْ في عَيْنِ مَنْ لا يُجَرَّبُ
إِذا لم تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِها
وأَعْضَائِها فالحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ
الشيات: العلامات، وأحدها شية.
يشبه الشاعر قلّة الخيل الأصيلة بقلّة الصّديق الصدوق؛ وإن بدت للناظر كثيرة، فالخيل الجياد هي التى تُلحق فرسانها بالطّلبات، وتنجيهم من الغمرات، وكذلك الصديق، فهو للظهر سناد، وللدهر عتاد، ولليوم جمال، وللغد مال، فالخيل الأصيلة المجرّبة قليلة، كما أنّ الصديق الصادق فى مودّته قليل.
وما قال المتنبي ذلك إلا لأن الخيل أحسن ذوات الأربع صورة، وأفضل من سائرها، وأشببها بالإنسان لما يوجد فيه من الكرم، وشرف النفس وعلو الهمة، وقد سبق أبو الطيب إلى هذا المعنى جميع الشعراء، فقد كانت العرب قبلُ تضرب الأمثال بالإبل.
وَفِي الحديث الصحيح (1263) ” تَجِدُونَ النَّاس كإبل مائَة، لَا يجد الرجل فِيهَا رَاحِلَة “. وَ”الرَّاحِلَة”: اسْم يَقع على الْجمل النجيب وعَلى النَّاقة المختارة، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة، كَمَا يُقَال: رجل داهية، وَرِوَايَة. وَقيل: سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل: أَي تسْتَعْمل فِي الرحيل وَالسير، وَإِنَّمَا هِيَ مرحولة، كَقَوْلِه: {فَهُوَ فِي عيشة راضية} [الحاقة: 21] أَي مرضية. والمعنى: أَن الْمُخْتَار من النَّاس قَلِيل، كَمَا أَن الْمُخْتَار من الْإِبِل للرحلة عَلَيْهِ وتحميله للأثقال قَلِيل.
وأهدي عمرو بن العاص ثلاثين فرسًا من خيل مصر، فعرضت عليه وعنده عتبة بن سنان بن يزيد الحارثي، فقال له: معاوية كيف ترى هذا يا أبا سفيان؛ فإن عمرا أطنب في وصفها، فقال: أراها يا أمير المؤمنين كما وصفت: إنها لسامية العيون، لاحقة البطون، مصغية الآذان، قراء الأسنان، ضخام الركبات، مشرفات الحجبات، رحاب المناخر، صلاب الحوافر، وقعها نحليل، ورفعها تعليل، فهي إن طَلبت سبقت، وإن طُلبت لحقت، قال معاوية: اصرفها إلى دارك فإن بنا عنها غنى، وبفتيانك إليها حاجة، وهذه الخلال التي ذكرها أبو سفيان قلما توجد في جواد، ولو بذل فيه سواد العين، وسويداء القلب، ورحم الله أبا الطيب، فلذلك قال ما قال!
قال د. حاتم الضامن-رحمه الله- في كتاب أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، لأبي المنذر هشام بن محمد أبي النضر ابن السائب ابن بشر الكلبي (المتوفى: 204هـ) (ص23) :” وكانت العرب ترتبط الخيل في الجاهلية والإسلام معرفةً بفضلها، وما جعل الله تعالى فيها من العز، وتشرفاً بها، وتصبراً على المخمصة واللأواء، وتخصها وتكرمها وتؤثرها على الأهلين والأولاد، وتفتخر بذلك في أشعارها وتعتده لها فلم تزل على ذلك من حب الخيل، ومعرفة فضلها حتى بعث الله نبيه، عليه السلام، فأمره الله باتخاذها وارتباطها…الخ.
وقد جعل العربُ للخيل مراتب عدة، وذكروا أنه كان عند المتقي العباسي فتى راوية للخبر والشعر يأنس به، فقال ليلة لجلسائه:
عودوا إلى ذكر الخيل، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، حدّثني كلاب بن حمزة العقيليّ قال: كانت العرب ترسل خيلها أراسيل، عشرة عشرة، والقصب سبعة سبعة، فلا يدخل الحجرة من الخيل إلا ثمانية:
الأول: “السابق المجلي”؛ لأنه جلى عن وجه صاحبه الكرب.
والثاني: “المصلّي”؛ لأنه وضع جحفلته على قطاة المجلّي، وهو صلاه، والصّلا عجب الذنب.
والثالث: “المُسلّي”؛ لأنه كان شريكا في السبق، فسلّى عن صاحبه بعض همّه.
والرابع: “التالي”؛ لأنه تلا المسلّي دون غيره.
والخامس: “المرتاح”؛ وهو المفتعل من الراحة، لأن في الراحة خمس أصابع، فلما كان الخامس على خامسة الأصابع سمي مرتاحا.
والسادس: “حظيّ”، لأنه نال حظا فحظي به وإن قلّ، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعطى السادس نصيبا وهو آخر حظوظ الحلبة.
وسمي السابع: “العاطف”؛ لدخوله الحجرة، لأنه قد عطف بشيء وإن خسّ إذ كان قد دخل الحجرة.
الثامن: “المؤمّل”، على القلب والتفاؤل، كما سمّي اللّديغ سليما فسمي مؤمّلا لقربه من ذوات الحظوظ.
ولابن الأنباري أبيات تجمعها وهي قوله: [الكامل].
جاء “المجلّي” و”المصلّي” بعده
ثم “المسلّي” بعده والتّالي
والخامس “المرتاح” ينقص عدوه
و”العاطف” “الصهّال” كـ “الرّئبال”
نسقا وقاد حظيّها في صهوة
ذاك المؤمل غير ذي الأشكال
ثم اللطيم يقودها بجميعها
قبل “السّكيت” “العاشر” “الذّيّال”
الخيل في القرآن الكريم
فائدة: قال السهيلي في التعريف والإعلام: وأما خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسماؤها:
“السكب”: وهو من سكب الماء كأنه سيل، والسكب أيضا شقائق النعمان. اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشرة أواق بالمدينة، وكان أدهم وكان اسمه عند الأعرابي الضرس فسماه النبي صلى الله عليه وسلم السكب، وهو أول فرس غزا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و”سبحة”: هو الذي سابق عليه صلى الله عليه وسلم فسبق ففرح بذلك
و”المرتجز”: سمي بذلك لحسن صهيله.
و”اللحيف”: كأنه يلحف الأرض لجريه، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة. وذكر البخاري في جامعه واللزاز ومعناه أنه ما سابق شيئا إلا لزه أي أثبته.
و”ملاوح”، و”الضرس”، و”الورد”، وهبه لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه عمر في سبيل الله تعالى، وهو الذي وجده يبتاع برخص انتهى.
وقد جاء القرآن الكريم ليؤكد على مكانة الخيل الكبيرة في قلوب الناس ولا سيما العرب، حيث قرن حبها بحب النساء، والذهب، والفضة، والأنعام .
قال تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ}. [آل عمران:14].
وفي قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } [ الأنفال:60]، والرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله.
وفي قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (النحل:8)، فالخيل هنا للركوب والزينة، هذا يدل أنواع استعمالها عند العرب.
وفي قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. [الحشر :6].
وقد ذكر الله الخيل ببعض صفاتها: مثل “الصافنات” و”الجياد”، قال تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} (ص:31) “الصافنات” جمع صافن وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو يديه ويقف على طرف الأخرى ، والجياد السريعة الجري.
غير أن أعظم منزلة للخيل وأشرفها كانت حينما أقسم الحق تبارك وتعالى بها، فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} .[العاديات:1-2]، و(العاديات): هي الخيل التي تعدو في سبيل اللّه. و(ضبحا) وتضبح وهو صوت أنفاسها إذا أجهدت في الجري فيكثر الربو في أجوافها من شدة العدو، وفي الموريات قال قتادة : هي الخيل تهيج للحرب ونار العداوة بين أصحابها وفرسانها.
وقد ذكرها النبي ﷺ في أحاديث كثيرة مثل قوله ” الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة”. رواه البخاري(2852).
وقد نظم بعضهم حديث النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال:
الخير ما طلعت شمسٌ وما غربت
مُعلَّقٌ بنواصي الخيل معقودُ
وأنشد أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد لابن عباس رضي الله عنهما:
أحِبُّوا الخيلَ واصطَبروا عليها
فإن العز فيها والجَمَالا
إذا ما الخيل ضيّعها أناس
ضممناها فشاركت العيالا
نُقاسِمُها المعيشةَ كلَّ يوم
ونُلبِسُها البراقعَ والجِلالا
وقد افتن الشعراء العرب في تصوير الخيل في أشعارهم، وأبدعوا في وصفها؛ بدّقة وإتقان، وروعة وحسن بيان.
ومن الأبيات المفردة في ذلك ما يُذكر عن عَمْرو بن مالك:
وسابق كعُقاب الدَّجْن أجعلُه
دُون العيال له الإيثار واللّطَف
وقال عامر بن الطُّفَيل:
وللخيل أيامٌ فمن يصطبر لها
ويعرِفْ لها أيامها الخير يُعقِب
وقال الرّبعي:
وقلتُ لقومي أكرِموا الخيل إنني
أرى الخيل قد ضَمَّت إلينا الأقاصيا
وقال طَرَفة بن العبد :
نُمسِكُ الخيلَ على مكروها
حِين لا يُمسكها إلا الصُّبُرْ
وقال لَبِيد بن ربيعة :
معاقِلُنا التي نأوِي إليها
بناتُ الأعوجية، والسُّيوفُ
غير أن أبا الطيب المتنبي-رحمه الله- قد سبقهم كلهم في هذا المضمار.
فقد ظهرت صور الخيل في شعره في أشكال كثيرة، وصور غزيرة، ولولا خشبة الإطالة لأتينا على تعدادها صورة صورة، ثم عملنا على تحليلها وتفكيكها، ولكن -كما يقال- مالا يدرك كله لا يترك جله.
فأول صورة رسمها المتنبي في شعره صورة الخيل الشاهدة، واستنطاقه إياها صحبة الليل والبيداء والرمح والقرطاس والقلم.
وما زلنا نقول بالعامية: (الخيل تعرف خيّالها، والفرس فارسها)، وهذا تماما ما أراده أبو الطيب من هذ البيت، فالخيل تستطيع أن تميز راكبها إن كان فارساً متمرسا، وبطلا شجاعا، أو كان هاويا خبرته قليلة.
وقد حدثنا التاريخ وهو صادق عن مشاركة أبي الطيب للأمير البطل سيف الدين الحمداني في معاركه مع الروم، ولا نحتاج إلى إعمال جهد لإثبات ذلك، وحسبك كثرة الخصوم والمناوئين لأبي الطيب الذي كانوا يتربصون له، ولو شكوا في قوله لعابوا عليه ذلك في شعرهم ومجالسهم.
وقد نقل لنا المتنبي-رحمه الله- في رومياته صورة كاملة، ولوحة شاملة رسم فيها بطولة سيف الدولة؛ وصور فيها بطولته، وبطولة الجنود المشاركين في المعركة، والخيل في ذلك كله مشاركة ، ومعاونة، كأفضل ما يكون البطل المغوار.
أما الصورة الثانية للخيل عند المتنبي فهي صورة الخيل الناقلة التي مهمتها فقط أن توصله للممدوح. قال:
ولقد أفنت المفاوز خيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
المفازة: الأرض المقفرة, سميت بذلك على سبيل الفأل؛ لأنها مهلكة, وهو من نحو قولهم للديغ: سليم يتيمنون له بهذا الاسم, وفي معجم (شمس العلوم) فَوَّزَ الرجلُ، بالزاي: إذا مات.
فخيل المتنبي قد تعودت قطع المفاوز وهي صائمة عن الطعام والشراب، وهذه الخلة لا تكون إلا في أعيان الناس وأكارمهم.
ونجدُ صورة أخرى للخيل عند المتنبي، وهي صورة الخيل المسرعة التي تنهب الأرض عدوا، وتوريها قدحا وضبحا، فهي تحس بفارسها، وتشعر براكبها ، وتنفذ مطلوبه.
فقَرِّطْها الأَعِنَّةَ راجعاتٍ
فإنَّ بَعيدَ مَا طَلَبْتَ قَرِيبُ
وتقريط الأعنة: هو إرخاء الفارس عنان فرسه، حتى يمس أذنه، فيصير بمنزلة القرط له.
وصورة أخرى للخيل نجدها عند المتنبي، وهي اشرف الصور وأكرمها على المتنبي هي صورة الخيل المقاتلة، التي تدخل المعركة بالكر والفر، والإقبال والإدبار. وقد عبر امرؤ القيس عن هذه الحالة بأروع تعبير، قال:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا،
كجلمودِ صَخْرٍ حَطَّه السَّيلُ مِنْ عَلِ
أي: أَنه يصلحُ للكرّ والفرّ، وَيحسن مُقبلا ومدبراً. ثمَّ قَالَ: مَعًا أَي: جَمِيع ذَلِك فِيهِ. وقال:
رمَى حَلبا بنواصي الخُيُولِ
وسُمْر يُرقنَ دماً في الصَّعيدِ
يقول: رمى حلباً بوجوه خيله، لما حاربها برماح له، تريق دماء أعدائه في الصعيد: أي التراب.
ولم يكتف المتنبي حتى جعل خيله مثله ومثل سيف الدولة قد تعودت القتال وتأقلمت معه، بل انها من شدة غضبها على العداء تدوس جماجمهم وصدورهم بكل قوة وثبات. قال:
أَدمْنا طَعنَهمْ والقتلَ حتَّى
خلطْنا في عِظامِهمُ الكُعوبا
كَأَن خيولنا كَانَت قَدِيما
تسقى فِي قحوفهم الحليبا
القحوف: جمع قحف، وهو عظم الرأس الذي على الدماغ. والحليب: اللبن المحلوب من ساعته. وقديماً: نصب على الظرف.
يقول: إن خيلنا تمر بنا على القتلى فتطأ رءوسهم وصدورهم، غير نافرة منهم، حتى كأنها كانت قد شربت اللبن فيما مضى من الأيام في عظام رءوسهم.
فمرت غير نافرةٍ عليهم
تدوس بنا الجماجم والتريبا
الجماجم: العظم الذي فيها الدماغ. والتريب: جمع التريبة وهي مجال القلادة.
يقول: هذه الخيل مرت بنا على جماجم الأعداء وترائبهم، ولم تكن نافرة عنهم؛ وذلك لإلفها هذه الأشياء وأمثالها.
وخيل مثل خيل المتنبي هذه هي خيل مطيعة لفارسها، لا تعصيه في كر او فر، ولا تتأبى عليه في إقبال أو إدبار، وقد محها المتنبي بهذه الخلال فقال:
علا كتد الدنيا إلى كل غايةٍ
تسير به سير الذلول براكب
يريد أن الدنيا قد أطاعته وانقادت له انقياد الدابة الذلول براكبها تسير به إلى كل غايةٍ قصدها وأرادها.
وثم صور عديدة للخيل في شعر المتنبي هي أليق بالبحوث والكتب منها بمقال في مجلة رقمية.
زر الذهاب إلى الأعلى