قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد ” (ص372):
خُلِقْتُ أَلوفًا لو رَحَلْتُ إلى الصِّبا
لَفَارَقْتُ شَيْبِي مُوْجَعَ القَلْبِ باكِيا
يقول: جُبلتُ على الإلف، حتى إنني لشدة إلفي ووفائي، لو فارقت الشيب الذي هو مكروه عند كل أحد ورجعت إلى الصّبا؛ لبكيت جزعًاً على الشيب.
وعندي أن هذا البيت رأس في الأمثال السائرة، وعُدّ عند بعضهم رأسًا في صحة الإلف؛ وذلك أن كل أحد يتمنى مفارقة الشيب، والمتنبي يقول: لو فارقت شيبي إلى الصبا لبكيت عليه لشدة إلفي إياه.
وما أجمل ما علق به الأستاذ أحمد أمين على هذا البيت الفريد؛ قال:
“فهو يمسُّ العاطفة أولا، ومن أجل هذا كانت الجملة الأولى علماً وبيت المتنبي أدباً.
العالمُ يلاحظ الأشياء، يستكشف ظواهرها، وقوانينها، وعلاقتها بأمثالها، وما يحيط بها، على حين إن الأديب لا ينظر اليها إلا من حيث أثرها في عواطفه وعواطف الناس”.
وما أحسن ما علق به الأستاذ عبد الله كنون الحسني، قال :” هذه أخلاق المتنبي …؛ وقد وصف به نفسه في شعره، وجاءت سيرتُه دليلا على صدقه في هذا الوصف. إلا أن الطاعنين عليه لم يعدموا ما يلمزون به أخلاقه أيضاً فقالوا: إنه كان بخيلا، وبخيلا جداً، واستدلوا على ذلك بحكايات ملفقة تشتم منها رائحة الوضع كما يقول المحدثون، وبأبيات من شعره إن لم نقل إنها محرفة عن موضعها فلا أقل من أن نقول إنها لا دلالة فيها على ما زعموه أصلًا، فأما تلك الحكايات فقد كفانا الأستاذ المازني أمرها إذ بين ما فيها من زور وما تحتويه من بهتان؛ وأما أبيات الشعر فإنا ناقلون مما هو نص من شعره في نفي هذه التهمة عنه، ثم مقارنون بينه وبينها ليظهر خطأ الاستدلال بها واضحاً لا خفاء فيه..”.
وقد أشار الأستاذ عبد الله كنون إلى مقال محمد عبد القادر المازني في “حصاد الهشيم” (ص148)، قال : ” زعموا أن المتنبي بخيل كز، وأنه أهان نفسه الكبيرة — أو التى زعمها كبيرة — فى سبيل المال.. وقالوا إن بخله هذا ودعواه الشجاعة لا يتفقان، اعتمدوا فى ذلك كله على مشهور الاعتقاد دون الانتقاد، وأخذوا فيه بالتقليد لا بالتمحيص والاختبار، وقابلوا أصحاب هذا الرأى بالتسليم والامتثال، ولم يعن واحد ممن قرأنا لهم فى هذا الباب بأن يبين عوار ما رُوي عن الرجل وعلة الخطأ فيما حكوه عنه وخلله، وليس هذا من النقد الأدبى فى شىء. ولا هو يدل على وجود الاستعداد لفهم الشعر على الوجه الصحيح.
ثم اخذ يورد القصة تلو القصة ويأتي عليها بالنقد والتفنيد.
وقد رأى بعض مبغضي المتنبي أن بيته هذا محض دعوى، أشبه بهذيان شاعر، فرد عليهم العلامة محمود محمد شاكر من سيرة أبي الطيب ومن شعره وأكد على أصالة خلة الوفاء في طبيعة أبي الطيب وفي نحيزته، قال شاكر :
…وبقي أبو الطيب في ظل أبي العشائر، وكان فتىً من فتيان بني حمدان، قد جمع أداة الفتوة ولم يستكملها، وكان أديباً مقتدراً مولعاً بالأدب، مبجِّلاً للأدباء عاطفاً عليهم معيناً لهم، وكان شاعراً تقع له الدرة الجميلة في شعره، والنادرة البديعة، غير متعمّدٍ ولا جاهد.
و أحبّ أبو الطيب صاحبه أبا العشائر، و أحبَّه أبو العشائر، و أكرمه، و أضفى عليه؛ من كرمه، و لينه، وحنانه، وقد حفظ أبو الطيب هذه اليد التي له عنده، حتى إنه لمّا غضب عليه بعدُ، وأرسل إلى أبي الطيب بعض غلمانه ليوقعوا به وهو بظاهر حلب، ورماه أحدهم بسهمٍ أخطأه، وقال وهو يرميه: (خذه، وأنا غلام أبي العشائر) = لم يُحفظ ذلك أبا الطيب على أبي العشائر، ولم يستدعِ هذا العزم على قتله هِجَاءَهُ أبا العشائر، بل قال :
ومُنْتَسِبٍ عِندي إلى مَنْ أُحِبّهُ
وللنَّبْلِ حَوْلي مِن يَدَيهِ حَفيفُ
فَهَيّجَ مِنْ شَوْقي وما من مَذَلّةٍ
حَنَنْتُ ولَكِنّ الكَريمَ ألُوفُ
وكلُّ وِدادٍ لا يَدومُ على الأذَى
دَوامَ وِدادي للحُسَينِ ضَعيفُ
فإنْ يكُنِ الفِعْلُ الذي ساءَ واحِداً
فأفْعالُهُ اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ
ونَفْسي لَهُ نَفْسي الفِداءُ لنَفْسِهِ
ولكِنّ بَعضَ المالِكينَ عَنيفُ
فإنْ كانَ يَبغي قَتْلَها يَكُ قاتِلاً
بكَفّيهِ فالقَتْلُ الشّريفُ شريفُ
وهذه الحادثة وما كان من أبي الطيب فيها، وما قال من الأبيات السالفة، دليلٌ قاطع على أن الرجل كان إذا أحبَّ وأخلص الحب لم يحوّله شيء عن حبّه،وأنّ هجاءه الذي كان منه لبعض من مدحهم، إنما كان منه لأنه لم يكن يضمر لهم حبّاً البتّة، بل كثيراً ما كان يخفي بين جنبيه احتقارهم و ازدراءهم، ولولا الضرورة لما مدحهم ولا قصدهم ولا وقف بأبوابهم، وهي أيضاً دليل على ما قطعنا به، في موضع من كلامنا، من أنّ أبا الطيب كان ودودًاً ألوفاً، كريم الخلق، وفيًّاً لمن وفى له وأحبّه و باذله الودّ، و قد صدق صاحبنا ولم يكذب إذ وصف لنا نفسه يوماً ما فقال:
خُلِقْتُ ألوفاً لو رَجَعْتُ إلى الصِّبَا
لَفَارَقْتُ شيبي مُوجَعَا القَلّبِ بَاكِيا
وهذا موضع من أخلاق أبي الطيب و نفسيته ينبغي الوقوف عنده و تدبره، إذ كان كثيراً ما يعترض به المعترضون حين يذكرون أخلاقه، حتى إنهم من اضطرابهم في فهم أخلاق الرجل و نفسيته، رموه هو بالاضطراب و الملل في الصداقة و الودّ. وليس الأمر على ما ظنوه، بل هو كما ترى في كلامنا هذا، ورحم الله أبا الطيب، فقد حمل من نكد الدنيا في حياته و بعد موته ما لقي من أرزاء”.
ولا غرو في ذلك فالوفاء في الناس عزيز، قال الشاعر:
اشدد يديك بمن بلوت وفاء
إنّ الوفاء من الرّجال عزيز
ومن أقوالهم ” لا يباع الصديق الأَلوف بالألوف”.
وفي حديث حسن عند أحمد (4 / 193، 194): ” ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون”.
ولا أعلم أحدًا من الناس ذهب شبابه إلا بكاه بدمع العين، وتمنى أن يعاوده بعد حين، ولا أعلم أحدًا استطاع أن يعبر عن دخيلة نفسه يلسان الحال او المقال إلا قال كما قال أبو العتاهية:
بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني
فَلَم يُغنِ البُكاءُ وَلا النَحيبُ
فَيا أَسَفًا أَسِفتُ عَلى شَبابِ
نَعاهُ الشَيبُ وَالرَأسُ الخَضيبُ
عَريتُ مِنَ الشَبابِ وَكانَ غَضّاً
كَما يَعرى مِنَ الوَرَقِ القَضيبُ
فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَوماً
فَأُخبِرُهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ
وإذا كان أبو الطيب يعرف ذلك -الوفاء- من نفسه، فلقد كان ينكره من غيره ، وقد عبر عن ذلك بقوله:
غاضَ الوفاءُ فما تلقاهُ في عدةٍ
وأعوز الصدق في الأخبار والقَسم
ولفرط تمثل أبي الطيب بهذا الخلق الجميل فقد كان المحسنُ إليه يستعبده، ويطوقه بإحسانه قال :
وقيدت نفسي في هواك محبة
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
قال أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ) في أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه (ص36) معلقًا على هذا البيت :
وهذا البيت من قلائده، وإنما ألم فيه بقول أبي تمام (من الكامل):
هممي معلقة عليك رقابها
مغلولة، إن الوفاء إسار
ولكنه أخذ عباءة وردها ديباجا، وأرسلها مثلا سائرا، وكرر هذا المعنى فزاد فيه … (من الكامل):
يَا مَنْ يُقَتَّلُ مَنْ أَرَادَ بسَيِفهِ
أَصْبَحْتُ مِنْ قَتْلاَكَ بِالإِحْسَانِ
فإذا رَأَيْتُكَ حَارَ دُونَكَ نَاظِري
وإذا مَدَحْتُكَ حَارَ فِيْكَ لِسَانِي
القتل معروف، والحائر: الذي لا يهتدي لسبيله.
وقد تغنى العرب في جاهليتهم وإسلامهم بخلق الوفاء، وحثوا التمسك به. وقالوا : أوفى من السموءل، وَهُوَ سموءل بن عادياء اليهودى أودعهُ امْرُؤ الْقَيْس دروعاً وسيوفاً وَخرج إِلَى الرّوم فقصده ملكٌ من مُلُوك الشَّام فتحرز مِنْهُ السموءل فَأخذ الْملك ابْنا لَهُ كَانَ خَارِجا من الْحصن وَقَالَ إِن سلمت إِلَى الدروع وَالسُّيُوف وَإِلَّا ذبحت ابْنك فَقَالَ شَأْنك فإنى غير مخفرٍ ذمتى فذبحه وَانْصَرف بالخيبة ووافى السموءل بالدروع الْمَوْسِم فَدَفعهَا إِلَى وَرَثَة امْرِئ الْقَيْس وَقَالَ:
وفيت بأدرع الكندى إني
إِذا مَا خَان أَقوام وفيت
وَقَالُوا إِنَّه كنز رغيب
وَلَا وَالله أغدر مَا مشيت
وَقد أَكثر النَّاس من ضرب الْمثل بِهِ فَمن ذَلِك قَول الْأَعْشَى ميمون بن قيس :
كن كالسموءل إِذْ طَاف الْهمام بِهِ
فِي جحفل كسواد اللَّيْل جرار
بالأبلق الْفَرد من تيماء منزله
حصن حُصَيْن وجار غير غدار
ورامه الْخَسْف تهديدا فَقَالَ لَهُ
مهما تقله فإنى سامع حَار
فَقَالَ غدر وثكل أَنْت بَينهمَا
فاختر وَمَا فيهمَا حَظّ لمختار
فَشك غير طَوِيل ثمَّ قَالَ لَهُ
اقْتُل أسيرك إنى مَانع جاري
قال أبو القاسم الحريريّ- رحمه الله تعالى-:
سامح أخاك إذا خلط
منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه
إن زاغ يومًا أو قسط
واحفظ صنيعك عنده
شكر الصّنيعة أو غمط
وأطعه إن عاصى وهن
إن عزّ وادن إذا شمط
واقض الوفاء ولو أخلّ
بما اشترطت وما اشترط
واعلم بأنّك إن طلبت
مهذّبا رمت الشّطط
من ذا الّذي ما ساء قطّ
ومن له الحسنى فقط
وقال حسّان بن ثابت -رضي الله عنه- يمدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم مضرب المثل في الوفاء والعرفان بالجميل: