مقالات

  وقفات مع المتنبي (55) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

 

عتابُ المرء نفسه في شعر أبي الطيب

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطّيّب المتنبّيّ -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص195)، يعاتبُ طرْفَه :

وَأَنَا الَّذِي اجْتَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُهُ

فَمَنِ الْمُطَالَبُ وَالْقَتِيلُ الْقَاتِلُ

يقول: طرفي جلب إليَّ هلاكي! فمن أطالب بدمي؟ والمقتول هو القاتل! لأن بعضي قتل بعضي.

وقال آخر يعاتب عينه:

والله يا بصري الجاني على جسدي

لأطفئن بدمعي لوعة الحزن

تالله تطمع أن أبكي هوى وضنى

وأنت تشبع من غمض ومن وسن

هيهات حتى ترى طرفًا بلا نظر

كما أرى في الهوى شخصًا بلا بدن

وقد أحسن ابن المعتز بقوله :

كنت صباحي قرير عيني

فصرت أمسي صريع بيني

تخلو الديار من الظباء وعنده

من كل تابعةٍ خيالٌ خاذل

قال ابن جنى: أراد بقوله: “من كل تابع” أي من كل جارية تابعة لأقاربها؛ لصغر سنها كما تتبع الغزال أمها.

ومنه قول جرير:

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله أركانا

قال الإمام أبو العباس بن سريج: من أراد أن يتظرّف فعليه بمذهب الشافعي، وقراءة أبي عمرو بن العلاء، وشعر ابن المعتز، فقيل له: قد عرفنا مذهب الشافعيّ وقراءة أبي عمرو بن العلاء، فأنشدنا من شعر ابن المعتزّ ما يوجب الظّرف فأنشد: [المنسرح]

كنت صباحي قرير عين

فصرت أمسي صريع بين

بعين نفسي أصبت نفسي

فالله بيني وبين عيني

ثم قال المتنبي:

الراميات لنا وهن نوافرٌ

والخاتلات لنا وهن غوافل

يقول: إنهن يرميننا بسهام عيونهن، وينفرن منا والعادة أن ينفر المرمي من الرامي. ويخدعننا بمواعيدهن وهن غريرات لا يعرفن مكرًاً ولا خديعة، والعادة أن الخادع يكون ذا مكر وخديعة.

وقيل: أراد أنهن يصطدننا بعيونهن من غير قصد منهن، ويفسدن قلوبنا من غير إرادتهن؛ لأننا ننظر إليهن وهن غوافل والمصراع الثاني تأكيد كذلك.

وقال أيضًا :

يا نظرة نفت لرقاد وغادرت

في حد قلبي ما بقيت فلولا

كانت من الكحلاء سؤلي وإنما

أجلي تمثل في فؤادي سولا

وقال أيضا :

وقي الأمير من العيون فإنه

مالا يزول ببأسه وسخائه

يستأسر البطل الكمي بنظرة

ويحول بين فؤاده وعزائه

ودخل أصبهان مغَنٍّ فكان يتغنى بهذين البيتين:

سماعًا يا عباد الله مني

وكفوا عن ملاحظة الملاح

فإن الحب آخره المنايا

وأوله شبيه بالمزاح

وقال آخر:

وشادنٍ لما بدا

أسلمني إلى الردى

بظُرْفه ولطفه

وطرفه لما بدا

أردت أن أصيده

فصاد قلبي وعدا

قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في “إغاثة اللهفان”(ج:1 ص47) : “إنّ النّظر يولّد المحبّة فتبدأ علاقة يتعلّق بها القلب بالمنظور إليه، ثمّ تقوى فتصير صبابة ينصبّ إليه القلب بكلّيّته، ثمّ تقوى فتصير غراما يلزم القلب كلزوم الغريم الّذي لا يفارق غريمه، ثمّ تقوى فيصير عشقا وهو الحبّ المفرط، ثمّ يقوى فيصير شغفا وهو الحبّ الّذي قد وصل إلى شغاف القلب وداخله، ثمّ يقوى فيصير تتيّمًا وهو التّعبّد فيصير القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له، وهذا كلّه جناية النّظر فحينئذ يصير القلب أسيرًا بعد أن كان ملكًا، ومسجونًا بعد أن كان مطلقًا، فيتظلّم من الطّرف ويشكوه، والطّرف يقول: أنا رائدك ورسولك وأنت بعثتني، فيبتلى بطمس البصيرة فلا يرى به الحقّ حقًّا، ولا الباطل باطلًا، وهذا أمر يحسّه الإنسان من نفسه فإنّ القلب كالمرآة، والهوى كالصّدا فيها، فإذا خلصت المرآة من الصّدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات”  .

وقد رأى موسى بن داود : « أن النظر إلى خمسة عبادة: النظر إلى الوالدين، والنظر إلى البحر، والنظر إلى المصحف، والنظر إلى الصخرة، والنظر إلى البيت» .

وفي “محاضرات الأدباء” (ج:2 ص123): ” قال أبو الفيض: خرجت حاجًا فمررت بحي فرأيت جارية كأنها فلقة قمر فغطت وجهها، فقلت يرحمك الله أنا على سفر وفينا أجر، فمتعينا برؤية وجهك فقالت:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا

لقلبك يومًا أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كلّه أنت قادر

عليه ولا عن بعضه أنت صابر

ومرت أعرابية بجماعة من بني نمير فأداموا لها النظر فقالت: يا بني نمير ما فعلتم بقول الله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)، ولا بقول الشاعر:

فغضّ الطّرف إنّك من نمير

فلا سعدًا بلغت ولا كلابا

وقد اتفق العقلاء على أن النظرة تفعل في قلب صاحبها ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه. قال الشاعر:

كل الحوادث مبداها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته

لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر

قال الإمام ابن حزم في كتابه “طوق الحمامة” (ص103):”وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي.

فأولها:  إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها.

فترى الناظر لا يطرف، ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل] فليس لعيني عند غيرك موقف … كأنك ما يحكون من حجر البهت”.

ونختم ببيت أمير الشعراء أحمد شوقي الذي سارت به الركبان، وتمثل به الشيوخ والشبان. قال:

نظرة فابتسامة فسلام

فكلام فموعد فلقاء

وهذا البيت الفريد من أبيات فريدة نظمها شوقي في أول شبابه وسنه يومئذ لا يتجاوز 23 سنة، وهي من أجمل شعره وأحلاه :

خدعوها بقولهم حسناء

والغواني يغرهن الثناء

ما تراها تناست اسميَ لما

كثرت في غرامها الأسماء

إن رأتني تميل عني كأن لم

تك بيني وبينها أشياء

وقد غُلِّطَ -رحمه الله – في قوله “تميل عني” فإن صوابها: تمِل؛ إذ هي جواب إن الشرطية، وعيب عليه أنه أخذ معنى البيت الثاني من قول أبي تمام :

أتيت فؤادها أشكو إليه

فلم أخلص إليه من الزحام

وهذا صحيح ولسنا ننكر ذلك، ولكن أنظر معي إلى المعنيين ترى -ولا شك- روعة شوقي وإبداعه.

قال أديب العربية مصطفى صادق الرافعي :”فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضة،  وجاء نسيمًا يترقرق بعدما كان كالريح السافية بترابها؛ لأن الزحام في بيت أبي تمام حقيق بسوق قائمة للبيع والشراء، لا بقلب امرأة يحبها، بل هو يجعل قلب المرأة شيئًا غريبًا كأنه ليس عضوًا في جسمها، بل غرفة في بيتها … وقد سبق شاعرنا أبا تمام بمراحل في إبداعه وذوقه ورقته”.

قال العلامة ابن حزم : ” ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجوداً، وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة، أعني ” الصلاح ” غلطًا بعيدًا.

والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحيلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل؛ والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ولا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب؛ والفاسق من يعاشر أهل النقص وينشر بصره إلى الوجوه البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات؛ والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء.

وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا؛ ولهذا حرم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية، وقد جعلت النظرة الأولى لك والأخرى عليك.

وإن فيما ورد من النهي عن الهوى بنص التنزيل لشيئًا مقنعًا؛ وفي إيقاع هذه الكلمة، أعني ” الهوى ” اسم على معان، وفي اشتقاقها عند العرب دليل على ميل النفوس وهويها إلى هذه المقامات، وإن المتمسك عنها مقارع لنفسه محارب لها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى