قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ص87):
تَلَذُّ لَهُ المُرُوءَةُ وَهْيَ تُؤْذِي
وَمَنْ يَعْشَقْ يَلَذُّ لَهُ الغَرَامُ
المروءة: مصدر مرؤ، كالإنسانية. والغرام: قيل: هو العذاب وأصله من المشقة.
يقول: تلذ المكارم للكريم وإن كلفته التكاليف، كما يلذ للعاشق حبه وإن أوجعه.
قال ابن الأثير في “المثل السائر” (ج: 1ص 152) : وهذا البيتُ من أبيات المعاني الشريفة، إلا أن لفظة “تؤذي” قد جاءت فيه وفي الآية، فحطَّتْ من قدر البيت، لضعف تركيبها، وحَسُنَ موقعُها في تركيب الآية”
قال أبو البقاء الكفوي في ” الكليات معجم في المصطلحات”: (ص353): “الجزالةُ إذا أُطلقت على اللفظ يُراد بها نقيضُ الرقة،وإذا أُطلقت على غيره يرادُ بها نقيضُ القلة “
ومثله:
تعلقها هوى قيسٍ لليلى
وواصلها فليس به سقام
يقول: عشق هذا الممدوح المروءة، كما عشق قيس بن الملوح، الملقب بالمجنون لليلى العامرية، ولكنه واصل المروءة المعشوقة، فليس لها سقام العشق. مثل ما كان لقيس في عشق ليلى؛ لأن السقام إنما يكون من الهجر وعدم الوصال، فهو لما واصلها لم يجد السقام.
ومثله:
يروع ركانةً ويذوب ظرفا
فما يدري: أشيخٌ أم غلام!
ركانةً وظرفاً: نصب على التمييز. وقوله: أشيخ مبتدأ وخبره محذوف. وتقديره: أشيخ هو أم غلام؟ والجملة في موضع نصب بقوله: فما تدري، والركانة: الوقار والثبات.
يقول: إذا نظرت إليه راعك وقاراً وهيبة، وإذا راعيته راعك بظرفٍ وحسن خلق، فله ركانة الشيوخ وظرافة الأحداث.
ومما قاله بشار في محاسن العمى:
وَعَيَّرَنِي الأَعْدَاءُ وَالعَيْبُ فَيهِمُ
وَلَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يُقَالَ ضَرِيرُ
إِذَا أَبْصَرَ المَرْءُ المُرُوءَةَ وَالتُّقَى
فَإِنَّ عَمَى العَيْنَيْنِ لَيْسَ يضِيرُ
وقد أكثر العلماءُ والحكماءُ والفُقهاءُ والأُدباءُ والشعراءُ في تعريف المروءة، وتحديد ماهيتها، فتنوعت فيها الأقوالُ، وتعدَّدت فيها الآراءُ، فمِن قائلٍ: “المُروءةُ ثلاثةٌ: إكرامُ الرِّجالِ إخوانِ أبيه، وإصلاحُه مالَه، وقعودُه على بابِ دارِه”، ومن قائلٍ: المُروءةُ: إتيانُ الحقِّ، وتعاهُدُ الضَّعيفِ”، ومن قائلٍ :” المُروءةُ تقوى اللهِ، وإصلاحُ الضَّيعةِ، والغداءُ والعشاءُ في الأفنيةِ”، ومن قائلٍ :” المُروءةُ: إنصافُ الرَّجُلِ مَن هو دونَه، والسُّمُوُّ إلى من هو فوقَه، والجزاءُ بما أُتي إليه”، ومن قائلٍ: ” مُروءةُ الرَّجُلِ: صِدقُ لِسانِه، واحتمالُه عَثَراتِ جيرانِه، وبذلُه المعروفَ لأهلِ زمانِه، وكَفُّه الأذى عن أباعِدِه وجيرانِه”.
وقد نرى في التعريفات السابقة محورية المال في وجود المروءة، وقد عبر عن هذا المعنى أحد الشعراء فقال:
رزقت لبّا ولم أرزق مروءته
وما المروءة إلا كثرة المال
إذا أردت مساماة تقعّدني
عما ينوّه باسمي رقة الحال
ومثله:
وإنّ المروءة لا تستطاع
إذا لم يكن مالها فاضلا
وقد يرى غيره أن المروءة في الدور والأبنية:
ومن المروءة للفتى
ما عاش دار فاخره
فاقنع من الدنيا بها
واعمل لدار الآخره
وقد رأى غيره أن المروءة قد تكتسب من غير مال:
وفتى خلا من ماله
ومن المروءة غير خال
وإذا رأى لك موعدًا
كان الفعال مع المقال
وكان معاوية يتمثّل فيهما
ومثله قول الشاعر:
ولا سوّد المال الدّنيّ ولا دنا
لذاك ولكنّ الكريم يسود
متى ما ير الناس الغنيّ وجاره
فقيرا يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى
ولكن أحاظ قسّمت وجدود
فكم قد رأينا من غنيّ مذمّم
وصعلوك قوم مات وهو حميد
وقد رأى بعضهم أن : ” المُروءةَ: التَّباعُدُ من الخُلُقِ الدَّنيِّ”، ومنهم: ” المُروءةُ: أن يعتَزِلَ الرَّجُلُ الرِّيبةَ، فإنَّه إذا كان مُريبًا كان ذليلًا، وأن يُصلِحَ مالَه، فإنَّ من أفسَد مالَه لم يكُنْ له المُروءةُ، والإبقاءُ على نفسِه في مَطعَمِه ومَشرَبِه”.
وعرفها آخر بقوله: “هي حُسنُ العِشرةِ، وحِفظُ الفَرجِ واللِّسانِ، وتَركُ المرءِ ما يُعابُ منه”.
قيل لمحمد بن عمران: ما المروءة؟ قال: أن لا تعمل في السر شيئًا تستحي منه في العلانية.
وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العفة والحرفة.
وقال طلحة بن عبيد الله المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة.
وقيل لأبي هريرة: ما المروءة؟ قال: تقوى الله، واصلاح الصنيعة، والغداء والعشاء بالأفنية.
والحقيقة أنها جميع ذلك.
فإن اختلافهم في تعريفِها هو اختلافِ تنوع وتعدُّدِ أجناسِ تحتَ أصل واحِدِ وأساس، فكُل التَّعاريف مُندَرِجةٌ تحتَ بابها ، داخلة في رحابها، فهي تشملُ كُلَّ ما ذُكِر ومالم يذكر من فضائِلَ عالية، وسجايا غالية، وأخلاقٍ كريمةٍ.
قال ابنُ حبَّانَ: “اختلفت ألفاظُهم في كيفيَّةِ المُروءةِ، ومعاني ما قالوا قريبةٌ بعضُها من بعضٍ”.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما اللذة؟ قال: تأمر شباب قريش أن يخرجوا عنا، ففعل فقال: اللّذّة طرح المروءة.
قال الجاحظ: وقد صدق عمرو، ما تكون الزّماتة والوقار إلا بحمل على النفس شديد، ورياضة متعبة.
قال الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً
فمطلبها كهلاً عليه عسير
وقال آخر:
إذا ما ترعرع فينا الغلام
فليس يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شدِّ الإزار
فذلك فينا الذي لا هوه
وقال ابنُ القَيِّمِ: “المُروءةُ: فُعولةٌ مِن لفظِ المَرءِ، كالفُتُوَّةِ من الفَتى، والإنسانيَّةِ من الإنسانِ؛ ولهذا كان حقيقتُها: اتِّصافَ النَّفسِ بصِفاتِ الإنسانِ التي فارق بها الحيوانَ البهيمَ والشَّيطانَ الرَّجيمَ؛ فإنَّ في النَّفسِ ثلاثةَ دواعٍ متجاذبةٍ:
1- داعٍ يدعوها إلى الاتِّصافِ بأخلاقِ الشَّيطانِ من الكِبرِ والحَسَدِ والعُلُوِّ، والبَغيِ، والشَّرِّ، والأذى، والفسادِ، والغِشِّ.
2- وداعٍ يدعوها إلى أخلاقِ الحيوانِ، وهو داعي الشَّهوةِ.
3- وداعٍ يدعوها إلى أخلاقِ المَلَكِ: من الإحسانِ، والنُّصحِ، والبِرِّ، والعِلمِ، والطَّاعةِ؛ فحقيقةُ المُروءةِ: بُغضُ ذَينِك الدَّاعِيَينِ، وإجابةُ الدَّاعي الثَّالِثِ. وقلَّةُ المُروءةِ وعدَمُها: هو الاسترسالُ مع ذينِك الدَّاعيَينِ، والتَّوجُّهُ لدعوتِهما أين كانت؛ فالإنسانيَّةُ والمُروءةُ والفتُوَّةُ: كُلُّها في عصيانِ الدَّاعيَينِ، وإجابةِ الدَّاعي الثَّالِثِ) .
ومما يذكر لطه حسين أنه اقترح في مقال له إنشاء “مدرسة المروءة” لما رأى من فساد الحياة الأدبية ؛ قال: حتَّى يتعلم جيلُ ذلك الزمان غير ما نشأ عليه من سفاسِف الأخلاق، وتحطَّمت عنده مكارمُ الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضربًا من التجارة يُلَبِّسها الغشُّ والخِلاب والمواربة.
وقد كتب هذا المقال عقب قراءته سلسلة مقالات للدكتور محمد حسين هيكل.
قال عمر بن عبد العزيز: ليس من المروءة أن تستخدم الضّيف.
وذكروا أن الأبرش الْكَلْبِيّ قَامَ ليصلح الْمِصْبَاح، فَقَالَ لَهُ صَاحب الْمجْلس: مَه لَيْسَ من الْمُرُوءَة أَن يستخدم الرجل ضَيفه؛ ويروى أَنه قَالَ: إِنَّا لَا نتَّخذ الإخوان خولا.
كان بعض السلف يقول: ذو المروءة يكرم وإن كان معدماً كالأسد يهاب إن كان رابضاً، والسخيف يهان وإن كان موسراً، كالكلب يخسأ وإن حلي طوقاً.
قال مالك بن دينار: لو كنت شاعراً لرثيت المروءة.
قال الحسن البصري: ليس من المروءة أن يربح الرجل على أخيه.