النص السردي شخصية مستقلة فاعلة كالمكان تمامًا
قراءة : كنانة حاتم عيسى

من الصعب جدًا، إلا تقع في سحر هذه الرواية، ولا أدري بحق، كيف يمكن لقارىء ألا تصيبه لوثة الجنون المؤقت، وهذه اللهفة التي يضبطها عقل ناقد أو ينجرف فيها قارىء هش، ينتظر بين التصعيد والآخر مأزقًا مراوغًا، أو كشفًا لأسرار مرسومة بدقة، وهذا التداعي المنفلت للمشاعر من نتوءات الشخوص اللانمطية، الذي يحرض توقا غامضا لرهبة المكان (الشخصية السائدة في العمل الروائي) الواحة سيوة ،ثم ذلك اللامرئي الذي يسكن السرد من العتبة المغوية الدالة إلى الأسطورة المباغتة التي تقتحم روتينية السرد بشكل مدروس، قادرة على زج القراء في عوالم مبتكرة طازجة تثير الصدمة لأنها موجودة واقعًا وحضورًا وألفة وإبهارًا، بينما يتواقت السرد في تجل مكاني تحت عناوين تنسل من سطوة المكان وأسطرته بين ثيمات ثرة ترواحت بين أدب الرحلات وبين اللامرحلية الخالدة و الرؤية المعاصرة للحضور الأنثوي في معاناته الإنسانية .
استطاعت رشا سمير في مؤلفها الطازج ان تجعل للنص سلطة نفسية على كينونة القارىء، فأنت تتذوق طعام سيوه وتستلذ بروائح توابلها ومطابخها وعطور نسائها وطقسية احتفالاتها، وتستمتع بصباحاتها و افراحها وحتى جنائزها، وتغرق في الغموض الرمزي الذي يلتصق بالحكايات المتشعبة عن الشخوص الاستثنائية للمكان الغامض، اسنطاع النص بشكل مستقل من التأثير على اساليب التلقي، فكيفما انقطعت عن النص او عدت اليه، تفاجئك متعة التشويق الذي ينتظرك، والمغامرة المنسوجة بدقة والعوالم الافتراضية القابعة بين التخييل والواقع، كلما عاد القارىء للقراءة تنتظره مفاجأة نفسية، استقطاع من أسطورة مجهولة، أو معلومة تاريخية موثقة، أو ترجمة لنقش حجري عتيق أو مخطوطة مغيبة، بين سرديات الشخوص في ارتحالاتها الرمزية.
ان سلطة النص ليست على عقل القارىء فحسب بل على حواسه وجوهره، وعوالمه النفسية.
الأدب اللامرحلي هو بوابة العبور للفكر الإنساني الخالد
ما يميز الادب الخالد العابر للزمكان هو القدرة على الصمود في وجه أي ذائقة ايديولوجية ، مع أي عصاب نفسي يتعلق بحكم القيمة، أنه أدب ماتع، مثير للرغبة بالتخييل،لا يهم ان كان واقعيا أو اسطوريا أو محاكاة لعمل توقف فجأة أو رمزيا، إنها طريقته الخاصة في السطو على عقل القارىء وترك بصمة فكرية لا تنسى…، استطاعت رشا سمير ان تقدم نسيجا استنائيا قائما على غموض الزمكان، غرابة الشخصيات مثل (انس،
راضي، ليرناردو، تاليس، مبروكة، الشيخ سلامة،
إيناس جدة تاليس) و فلسفة الحقائق التاريخية، والنقد الناعم لسلطة المجتمع القبلي وإرهاصاته، وتوظيف البنى المعرفية الداعمة للأطروحة الفكرية الكبرى، استدامة التاريخ المغيب، وزجه في تفاعل قارئي منهجي بني بدقة، تطلبت الكثير من البحث المعرفي والشمولية الثقافية وكما ورد في النص:
❞ ما زالت الأحلام بعيدة، وما زال الإبحار إلى قلب الشمس ممنوعًا بأمر السلطان..
فلا زال السلطان ممسكًا بالصولجان.
في سرد روائي بني على منهج( الفانتازيا التاريخية) ، الجنس الروائي التخييلي المغوي، أرادت المؤلفة بغرض إثارة أسئلة كثيرة، تتعلق بالراهن،و بالتقلبات السياسية والانتفاضات المجتمعية والعلاقة مع الغرب والمفاهيم المضمرة، وبقضايا الديمقراطية والهوية النسوية، ان تنتج رواية مختلفة، ولعلّ هذه الأسئلة هي التي ستفسر إقبال القراء على هذه العمل، إلى جانب التركيز على الذاكرة الثقافية و أدب المذكرات والرواية الشفوية للشخصيات العابرة للسرد في الحبكات الثانوية.
ادب البنى المعرفية والرحلات
ان هذا العمل الجمالي الذي عبر بنا كقراء في أماكن غريبة جميلة مثل :
جبال المغرب، ترستي ايطاليا-ميناء الإسكندرية – واحة النخيل– جبل الدكرور، شالي الغامضة ، اية مغار، حدائق ابعمران، اغورمي، وكل الأماكن الغامضة المتخيلة والمواقع الأثرية الموثقة في واحة سيوة،هي نوع من ادب الرحلات السردي، حيث تقدم المعلومة ضمن النسيج الروائي، كاستثمار للمناخ التاريخي والجغرافي وتوظيفه في تقديم نص ابداعي ممتع، هو مزيج بين التحري عن الحقيقة وبين تقديم شكل من اشكال القراءات الناقدة للتاريخ، فيها من ذاتية القارىء المتلهف للتجربة وموضوعيته في فهم أطروحة العمل وفيها من التخييل مثلما فيها جوانب من حقائقه.
ولذلك لم تكتف الكاتبة بالتنقل بين الأماكن في وصفها بالتفصيل الباذخ بل قارنتها بالدراسات الأنثربولوجية واتكاءاتها التاريخية وطقسية شعوب الأمازيغ العريقة، كما تحدثت عن شخصيات تاريخية واحتفالات شعبية فولكلورية محلية لن تنسى وذكرت الأسماء بلغتها الأم، توثيقا للتحربة النفسية، مثل قصتي :
ملك المر والملكة ديهيا
❞ حكاية نونجا مذنيفاس، ❝
واحتفال (المسطاح) وما سواه من احتفالات طقسية
تاريخية.
أسطرة الحب، والوقوع في حب الأسطورة والنقد المجتمعي
استطاع السرد الروائي التخييلي بث ثيمات مضمرة، غير علنية، على عكس موضوعة المظلومية النسوية تحت الوصاية الأبوية الشرقية القبلية، فنرى على سبيل المثال، الصراع النفسي المتجسد في الشخصيات حول (علية القوم) و البقية (الزقالة) في مجتمع الواحة التراتبي الطبقي، ونرى توظيف الخرافة في الموروث الأمازيغي، و إنسنة الرمز الديني لهدم الفجوات التاريخية بين الخيال والحقيقة، ونرى شخوصا نسائية مبتكرة متناقضة، متنوعة، مثل تاليس التي تمثل التمرد والقوة وكسر الأعراف، وبين مبروكة الأنثى المسحوقة بأبوية قبلية قاهرة ساحقة استلبت منها روحها وأحاسيسها في مجتمع واحد، وشخصية ايناس جدة تاليس، القائدة الملهمة في مجتمع قبلي آخر تعلن القوة والثبات والتجذر قي الموروث إيجابيا، إنه نقد ناعم يستعير الحكاية لينبثق صوت الكاتبة خفيا في معظم أرجاء الحكاية وعاليا في نواح أخرى وكما ورد في النص
ما زالت النساء يقبعن خلف الأبواب..
وما زالت الأفكار حبيسة في الصدور..
وما زال الشاطئ بعيدًا والسباحة ضد الأمواج لن تصبح أبدًا من شيم النساء. ❝
وعن الجدة (أريناس)
ابتسمت الجدة، كفكفت دمعها وهي تنظر إليه ينطلق ليحلِّق إلى أعلى، يقينها أنه سمع كلامها وطار ليحمل لتاليس الرسالة.. سوف يحكى لها حكاية نونجا مذنيفاس.. ربما.
تطرح رشا سمير أسئلة الحاضر حول المرأة الشرقية في قالب تاريخي، فهي لا تتهم السلطة الذكورية فقط، بل الأنوثة الخاضعة لها، انها استنباط سردي يقدم الحلول من خلال الأسئلة فمصير نساء السرد بأيديهن، وليس بسلطة المجتمع القاهر والمتعنت باسم الوصاية والعرف والتقليد والحماية والجاهز لإطلاق الأحكام، ، إنه تعميم لا يخص زمكانا بحد ذاته بل استبصار روائي للحاضر الذي ما زالت تعيشه نساء هذا الزمن حتى الآن وكما ورد في النص: .
كم من امرأة قتلها الحُب حين شعرت بالإهمال!
وكم من امرأة أهملها زوجها فقتل فيها شعور الأنثى ونبض الحياة!
كم من امرأة.. هي إحداهن.
رواية “المسحورة” عمل روائي مميز، جاءت أحداثه شيقة ملهمة، مثيرة، تحوطها الغرائبية، بطل الحكاية الرمزية لا يمثل الاستشراق الاستعلائي، بل العشق الخرافي للشرق وموروثه وأساطيره، الرمزية المصاغة فيه بدقة، تحتمل الكثير من الدلالات الثقافية، والأنساق الدالة الخبيئة لمجتمع النخبة، رغم وجود بعض الأخطاء السياقية، لكنها حكائية تعبر الأزمنة والأمكنة لتمتع القارىء العادي الباحث عن سطوة المرويات حقيقية كانت أم متخيلة ولا سيما تلك النهاية الصاعقة المدوية التي تدل على ذكاء الكاتبة السردي وفهمها لموضوعة سردها، وكما ورد في النص، فالراوي عليم ونحن لا نعلم.. ❝
زر الذهاب إلى الأعلى