فلسفة الشيب في شعر أبي الطيب

د. أحمد الزبيدي
يعدُّ الشيبُ مرحلة من مراحل العمر، تعتري الإنسان فيها تناقضات عدة، وتباينات مختلفة، من ضعف بعد قوة، وخمول بعد انطلاق ومروة، وحلم ووقار بعد نزق وطيش وحب للاشتهار!
وقد تعتمل هذه المشاعر في نفس الإنسان، غير ان الشاعر هو وحده الذي يستطيع التعبير عنها، ويحسن تصويرها، وكثرة الشعراء تكلموا عن الشيب، وتحدثوا عن مفهومهم عنه، غير ان أبا الطيب يظل هو الأفضل من بينهم ، والمميز في جمعهم،، حيث كان له فلسفة خاصة، شأنه في ذلك مع كل ما ينتاب النفس البشرية من نوازع وهموم بشكل عام والنفس العربية بشكل خاص.
قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- “الواحدي” (ص13):
إلاّ يَشبْ فلقد شابَتْ له كبدٌ
شَيْباً إذا خَضَّبَتْه سَلْوَةٌ نَصَلاَ
يقول: أن كبده قد شابت لأن عادتها ألا تبيض؛ وإنما جرت العادة أن يصفوا الرأس بالشيب، وكذلك يستعيرونه للفؤاد، وإنما استحسنوا ذلك لأنهم يقولون: سواد القلب وسويداؤه وسوداؤه؛ فلما وصفوه بالسواد كما يصفون الشباب وصفوه بالمشيب.
وقد زعم أبو العباس المصيصي أن المتنبي سرق هذا من أبي تمام في قوله:
شَابَ رأْسي وَما رأيتُ مَشيب الرَّأ
سِ إِلا من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤَادِ
قال المهلبي: الأشبه أن يكون أبو الطيب اخذ ذلك من قول أبي نواس: المنسرح
يا عمرو أضْحَيْتُ مُبْيَضَّةً كَبِدي
فأخْضِبْ بياضاً بعُصْفُرِ العنبِ
وأي الرأيين كان صحيحا منهما فإن أبا الطيب قد زاد عليهما بذكر الخضاب، والنصول.
ويقول:
ما أبعدَ العيبَ والنُقصانَ من شيَمي
أنا الثُريّا وذانِ الشّيبُ والهرمُ
يقول: أنا الثريا، وذان؛ يعني: العيب والنقصان؛ أي هذان الشيب والهرم, والثريا آمنة منهما لأنها لا تشيب ولا تهرم.
ويقول:
بحبِّ قاتلتي والشيبِ تغذيتي
هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلمِ
تعذيبي: مبتدأ وبحب قاتلتي خبر مقدم عليه وهواي مبتدأ وكذلك شيبي وطفلاً وبالغ نصب على الحال، وهي في موضع الخبر للابتداء، وقائم مقامه.
يقول: تعذيبي بشيبي حب قاتلتي والشيب. ثم بين وقت كل واحد منهما. فقال: هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم يعني: هويت وأنا طفلٌ، وشبت وأنا بالغ الحلم.
ولما بين أنه عشق طفلاً، وشاب وقت الحلم جعل الحب والشيب عذاباً، وغرضه بذلك حصولهما قبل وقتهما.
ويقول:
شيبُ رأسي وذلتي ونحولي
ودموعي على هواك شهودي
يقول: شهودي على هواك :الشيب؛ لحلوله قبل أوانه، ونزوله في غير زمانه. وذلي في هواك، ونحول جسمي، وانسكاب دموعي، والله تعالى أمر في القضاء بالشاهدين ولي أربعة شهود!
ويقول:
وأوفى حياةِ الغابرين لصاحِبٍ
حياةُ امرئٍ خانتْه بعد مَشيبِ
يريد: أنَّ الحياةَ وإن طالت فهي إلى انقضاء، يقول: أوفى عُمر أن يبقى حتّى المَشيب ثم يخونُه عُمْرُهُ بعد ذلك، وقصاراه الموت، أو تقول: إذا عاش المرءُ إلى بلوغِ المَشيب ثم خانته حياتُه يومئذٍ فقد تَناهَتْ في الوفاء.
ويقول:
راعتْكِ رائِعةُ البَياضِ بعارِضي
ولوَ انّها الأولى لراعَ الأسْحَمُ
يقول: راعتك الشعرات البيض التي انتشرت في عارضي، ولوكان الشعر يبدو أبيض ثم يسود، لخفت من السواد خوفك من البياض، والذي راعك إنما هو علو سني، لا البياض.
ويقول:
لو كان يمكنني سفرتُ عن الصبا
فالشيبُ من قبل الأوان تلثُّمُ
والهمُّ يخترم الجسيمَ نحافةً
ويشيب ناصيةَ الصبيِّ ويهرمُ
يقول: لو قدرت لكشفت البياض عن شعري، حتى أريك صباي، وتعلمين أنت أني شبت قبل الأوان، والشيب قبل أوانه بمنزلة أن يتلثم الإنسان بعمامة بيضاء؛ لأنه لا يورث ضعفاً ولا يوهن قوة، فإنه يكره الشيب لهذا المعنى.
ويقول:
ما الدّهر عندكَ إلا روضةٌ أُنُفٌ
يا مَن شمائلُه في دهرِه زهَرُ
ما ينتهي لك في أيامِه كرَمٌ
فلا انتهى لك في أعوامِه عُمرُ
فإنّ حظّك من تكرارِها شرَفٌ
وحظَّ غيرِك منهُ الشّيبُ والكبَرُ
الهاء في تكرارها للأيام أو للأعوام، وفي منه للدهر.
يقول: إنك لا تزال تزداد شرفاً على مرور الأيام وكرور الأعوام؛ لأنك تفعل في كل وقت فعلاً لك فيه ذكر وشرف، وغيرك يزداد شيباً وهرماً.
ويقول:
خُلِقتُ ألوفاً لو رحلتُ إلى الصبا
لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكيا
ويقول:
وفي الجِسْمِ نَفْسٌ لا تَشِيْبُ بِشَيْبِهِ
وَلَوْ أَنَّ ما في الوَجْهِ مِنْهُ حِرابُ
الحراب: جمع حربة.
يقول: إن كان جسمي أثر فيه الشيب، فإن نفسي التي في جسمي لم تضعف بضعفه ولو أن بدل كل شعرة بيضاء حربة في الوجه مغروزة.
ويقول:
وما كنتَ ممن أدرك المجدَ بالمُنى
ولكنْ بأيامٍ أشَبْن النّواصِيا
يقول: لم تدرك الملك بالتمني والاتفاق، وإنما أدركته بمقاساة الأمور العظيمة، ومعاناة الخطوب الشديدة، ومباشرة الحروب التي تشيب بهولها رءوس الأطفال. وأراد بالأيام: الحروب، والخطوب العظمة.
ويقول:
وما خضب الناسُ البياضَ لأنه
قبيحٌ ولكنْ أحسنُ الشَّعْر فاحمهْ
الفاحم: الشديد السواد. يقول: إن الناس لا يخضبون البياض لأنه قبيح، بل هو حسن، ولكن الشعر الأسود أحسن في مرأى العين؛ لدلالته على فتى السن، والبياض يدل على الهرم.
قال المفضّل: كان عبد بني الحسحاس أسود حسن الشعر رقيق الألفاظ وأُتي به أول ما قال الشعر عثمان بن عفان، فقيل له: اشتره فإنَّه شاعر، فقال: لا حاجة لي فيه؛ لأن العبد الأسود إذا كان شاعراً وجاع هجا مواليه، وإذا شبع شبَّب بنسائهم وهو آخر أمره مقتول. وكان الأمر كما قال.
وانظر على فراسة عثمان رضي الله تعالى عنه كيف تنبأ بمقتل سحيم. قَالَ بن حجر فِي الْإِصَابَة: يُقَال إِن سَبَب قَتله أَن امْرَأَة من بني الحسحاس أسرها بعض الْيَهُود واستخصها لنَفسِهِ وَجعلهَا فِي حصن لَهُ فَبلغ ذَلِك سحيماً فَأَخَذته الْغيرَة فَمَا زَالَ يتحيل لَهُ حَتَّى تسور على الْيَهُودِيّ حصنه فَقتله وخلص الْمَرْأَة فأوصلها إِلَى قَومهَا فَلَقِيته يَوْمًا فَقَالَت لَهُ: يَا سحيم وَالله لَوَدِدْت أَنِّي قدرت على مكافأتك على تخليصي من الْيَهُودِيّ فَقَالَ لَهَا: وَالله إِنَّك لقادرة على ذَلِك عرض لَهَا بِنَفسِهَا فاستحيت وَذَهَبت ثمَّ لَقيته مرّة أُخْرَى فَعرض لَهَا بذلك فأطاعته فهويها وطفق يتغزل فِيهَا ففطنوا لَهُ فَقَتَلُوهُ خشيَة الْعَار.
وسأل عمر بن الخطاب يوماً أهل مجلسه عن الَّذي يقول: ” كفى الشَّيب والإسلامُ للمرءِ ناهِيا ” فقيل: عبدُ بني الحسحاس، فقال: لو قدَّم الإسلامَ على الشَّيب لفرضتُ له.
وقد قال عمر ما قال لأن التَّقديم فِي الذكرِ يدل على التّقديم فِي الدَّرجة ويدلّ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَدْوَنِ عَلَى الْأَشْرَفِ فِي الذِّكْرِ قَبِيحٌ عُرْفًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا شَرْعًا.
والدليل ذلك: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}، [الْبَقَرَةِ: 285] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ من الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ وَثَلَّثَ بِالْكُتُبِ وَرَبَّعَ بِالرُّسُلِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الْأَحْزَابِ: 56]
وفي الاصابة لابن حجر: سحيم، بمهملة، مصغر، عبد بني الحسحاس، بمهملات، شاعر مشهور مخضرم. أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم وتمثل النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء من شعره.
روى أبو الفرج عن أبي عبيدة. قال: كان سحيم عبدا أسود أعجميا.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتمثل ويقول: كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا، فجعل لا يطيقه، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. وتلا: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ}.
قال الفخر الرازي: ” وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ قَوْلِ الْمَعَرِّي:
وجنح يملأ الفودين شيباً
ولكن يجعل الصحراء خالا
وَقَالَ: كَيْفَ يُفَضَّلُ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}، عَلَى بَيْتِ الْمَعَرِّي؟ فَقُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ لَيْسَ بِعَجَبٍ، أَمَّا صَيْرُورَةُ الْوِلْدَانِ شِيبًا فَهُوَ عَجِيبٌ كَأَنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقُلُهُمْ مِنْ سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرُّوا فِيمَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِسَنِّ الشَّبَابِ، وَهَذَا هُوَ الْمُبَالَغَةُ الْعَظِيمَةُ فِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ مَعْنَاهُ ابْيِضَاضُ الشَّعْرِ، وَقَدْ يَبْيَضُّ الشَّعْرُ لِعِلَّةٍ مَعَ أَنَّ قُوَّةَ الشَّبَابِ تَكُونُ بَاقِيَةً فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَةِ الْوِلْدَانِ شُيُوخًا فِي الضَّعْفِ وَالنَّحَافَةِ وَعَدَمِ طَرَاوَةِ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ، لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مَوْضِعٌ لِلرُّطُوبَاتِ الْكَثِيرَةِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ الشَّيْبَ إِنَّمَا يَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الصُّدْغَيْنِ، وَبَعْدَهُ فِي سَائِرِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ، فَحُصُولُ الشَّيْبِ فِي الْفَوْدَيْنِ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ إِنَّمَا الْمُبَالَغَةُ هُوَ اسْتِيلَاءُ الشَّيْبِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ بَلْ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
زر الذهاب إلى الأعلى