يقول الأديب المجري دَجو كوستولاني في قصته “صديق الإنسانية”: أحد معارفي يحب الإنسانية، أما أنا فأحب ابني، وأهلي، وبعض أصدقائي، ثم أحب أيضاً الحبر الأخضر الذي أكتب به منذ شبابي، وأحياناً لحم فخذ العجل، خاصة مع الفجل المخلل، والسيجار الأصلي، ولكن صاحبي هذا يظن أنه الوحيد الذي يحب الإنسانية.. ينظر إليَّ بقليل من الاستخفاف، فهو يتعجب كيف يمكن لشخص يعيش في القرن العشرين أن لا يحب الإنسانية! عادة أجيبه بأنني لم أقابل شخصًا مثل هذا بعد، ولم أره في أي مكان، ولم يأتِ ليعرفني بنفسه. عندها، يبتسم بطريقة غامضة، ومتسامحة بعض الشيء لأنه لا يريد الإساءة لي، وهو حريص على ألا يفصح عن اعتقاده بأنني أناني وقاسي القلب.
يفكر صاحبي في الإنسانية بمجرد أن يستيقظ في الصباح. كيف تنام الإنسانية في الليل؟ وهل كانت وسادتها مريحة؟ وهل أحرزت تقدماً ما منذ أمس؟ أعترف بأنني في مثل هذا الوقت تكون لدي مخاوف أخرى أولها وقبل كل شيء: كيف يمكنني دفع فاتورة الغاز وشراء معطف شتوي جديد لابني الذي وبخني أكثر من مرة على عدم اكتراثي هذا؟.
لوقت طويل اعتقدت أن هذا الرجل بليد وأحمق، ولكن على مر السنين أدركت خطئي القاتل، فهو أحد أعظم الحكماء الذين رأيتهم على الإطلاق، بينما أهدرت أنا جهودي على جانبي طريق حياتي، ووزعت حبي على أولئك الذين عشت معهم، في حين كان صاحبي كالصديق الصامت للإنسانية، تزوج من سيدة ثرية، واشترى عقارات وعقد صفقات ضخمة فجمع ثروة طائلة، ولم يلتفت إلى المحتاجين من حوله.. يعيش الآن مرتاحًا في دار مفروشة بالسجاد، ويبقي بشكل صارم وثابت أقاربه المساكين بعيداً عنه لكيلا يزعجوا تأملاته، ولأنه عقيم، فقد تبنى الإنسانية، تلك الإنسانية الصغيرة العزيزة، كطفلة له. يقولون إنها طفلة ذكية تتحدث بعدة لغات.
هذا القريب اللطيف لا يتطفل بشكل مفرط بأي شكل من الأشكال، فهو لا يطرق على باب أحد، ولا يستجدي الخبز من أحد، ولا يطلب معطفًا شتويًا من أحد.. يلمع وجهه من مسافة بعيدة ويتألق بريق من المجد على جبهته.. لا أحد يستطيع أن يدخل غرفته و يقول: “أنا، من فضلك، أنا أمثل الإنسانية”، فالكل عنده إما سين من الناس وإما صاد، مجرد بشر، وليسوا من الإنسانية في شيء.
في أحد الأيام، ورغم كل ذلك، أرسلت إليه الإنسانية، والتي تمثلت في شخصية طالب معدم، أمرًا بإدخاله إلى الصالة الخاصة به.. كان وقتها يحمل بين يديه جريدة، ويبدو أنه قرأ فيها أخبارًا أثارت سخطه بشدة، فقد تعرضت الإنسانية للعار مرة أخرى، ففي جنوب أمريكا، صفعوا مساعد حلاق زنجي، وفي أستراليا طردوا مائتين من عمال المناجم. ضم قبضته وهو يخبر الطالب بذلك، لكنه لم يخفِ حقيقة أن التقدم في تلك الأمصار ملموس، ولكي يضفي التبريرات لتلك الأحداث سلط الضوء بشكل خاص على السينما والراديو والطائرة. أما الطالب الذي لم يحصل منه على أي شيء، فتركه مرتبكاً، وواصل قائلًا إن شيئاً كهذا ما كان من الممكن تخيله في القرن الماضي أبدًا.
وحينما شرع في توديع الضيف غير اللائق، تمتم في الصالة الكبيرة على عجل ،وكأنه يُصلي، بأنه لم يأكل منذ أمس، فما استطاع أن يتمالك نفسه واغرورقت عينا صاحبي الحنونان بالدموع، وحالما تملص من الطالب، دخل غرفة الطعام مسرعاً.
كانوا قد أعدوا لتوهم المائدة لتناول طعام الغداء، فأمر الخادمة بصوت لا يخلو من السخط أن ترفع المائدة، فمن الأفضل ألا يأكل هذا اليوم أيضاً.
يا له من إنسان مدهش للغاية صاحبي هذا، صديق الإنسانية.