آفاق الحياة واسعة، ورؤى المستقبل الكونية تصرف عن تشيؤ الإنسان مهما كان الهدف منه، ليس الموضوع نوايا حسنة، أو فخاخًا بقدر ماهو انعكاسات وتحولات إنسانيّة، إن فكرة عارضي الأزياء (رجال، نساء، أطفال) تفترض الإبهار من خلال الوسامة الجسدية، مقابل استخدام الأجساد في سبيل الترويج للألبسة بجميع أنواعها، لولا الضجّة التي يثيرها بعض اتحادات نقابات العمال في مكان ما من العالم، أو جمعيات حقوقيّة موقّرة. كذلك لاعبو الفرق الرياضية هم عبارة عن عقود وأرقام تعمل على تشيؤ الإنسان، ولا يتوقف الأمر عند فكرة عقلية تنتحل صفة المتفاخر بحماية حقوق الإنسان من شركات الدعاية والإعلانات لحملهم ثقافة الجسد في هذا الاتجاه. إنما يتعدى انتهاك القيم والمتاجرة بالإنسان كسلعة، أصبح فيها لكل صاحب جسد ثمن حسب تميزه جمالًا، أو مهارات، أو قدرة وفق الاستعراض المطلوب.
إن المساواة التي نادى بها الغرب طويلًا، ثم تحققت كجزء من القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي اعتُمِد وأقرّ، كان المنظور الأول له: ” أن البشر يولدون أحرار، متساوون في الكرامة والحقوق”، وعندما بدأت الحركة النسائيّة الدولية تكتسب تأييدًا خلال السبعينات من القرن الماضي، وأنشِئ صندوق التبرّعات لدعمها، تحولت فكرة المساواة من قِيَم وانتصار للمرأة بحصولها على حقوقها في التعليم والانتخابات والعمل والحكم و….، إلى ردود فعل عنيفة بسبب تهميش المرأة السابق من قِبل منظومة الفكر البطريركي الذي صور النساء ضحايا للدين، ما أدّى إلى الميل عن الفطرة التي تؤكد أهمية المرأة الفُضلى وإبعادها عن دورها الحقيقي في الحياة كحاضنة للأسرة ومربيّة عظيمة تنشأ الحضارات العريقة بوحدة الأسرة أولا، ثم توسعت الحريات- مع عدم التطرق هنا للولاية والعنف- في الغرب لتنشغل المرأة الغربيّة عن مهامها الأصلية في كونها رفيقة للرجل وسكن له كزوجة، ما جعل انتصارها والمكاسب التي حققتها، ثم انشغالها في ذلك، يُسهم في خلق فراغ عظيم في حياة الرجل الغربي، وعندما رضخ إلى واقعه، وفقد الأمل من عودة التلاحم والاستقرار النفسي الذي عاشه في السابق، ذهب إلى ابتداع صورة معيّنة للمرأة في ذهنه، ذات معايير جماليّة، صدّر لها فتيات الإعلانات، وعارضات الأزياء، ووضع لها اشتراطات ومعايير لإرضاء ذاته مرة أخرى، رغبة منه في تسييدها، وعودة السلطة إليه مرّة أخرى، بمعنى أنه عندما فقد الأمل بوجود الحريم، نتيجة حركات تحرر المرأة، صدّرها من خلال تسليعها، ووقعت في فخه من جديد.
تم الإعلان عن هذا الفكر منذ وقت طويل من الغرب ذاته، فقد أسهم رائد السيميولوجيا رولان بارت عبر كتابه” ميثولوجيات” الذي خصص له أبوابًا ليستنطق الإشهار، ويبين من خلاله أساطير الزّيف التي أطّر بها الغرب عقليته، وقدّم صورًا مغايرة عنها، وعروض الأجساد الحاصلة ليست إغواءً فقط، بل الأمر أكثر تدميرًا عندما يمتد إلى تمثّلات ثقافية.
وبسبب انتقال حداثة الغرب إلى شرق، وكأنها كتاب قيّم لم يُسهم الشرق في صناعة أفكاره أو كتابته، وربما لم يكن مترجم بدقّة له، فكان ضياع الهويّات هو النتيجة، وتبنى الرجل الشرقي رؤى لا تشبهه، ولم تكن تتناسب مع واقعه كمتلقٍّ إذ تم تحويل الجسد إلى جسر عبور غرائزي، نظرًا لعدم مرور الشرق بتجربة حقوق الإنسان تلك التي حصت في الغرب، ولعدم انشغال المرأة العربية بشكل كلّي، التي لم تتحرر كما الغربية، مع ذلك انصاعت إلى التسليع فكانت أداة طيّعة، وانتهج الشرقي سلوكًا لا يليق بالحالة الرّاهنة لديه، فعانى مرتين كإنسان، مرة بسبب اختلافها، ومرة بسبب الاغتراب الفكري، ونحن ما زلنا في التيه نأخذ من كل شيء آخره، فلم يحصل المستهلك على احتياجاته، إنما خطاب مضلل يطبع العصر بصفة الوهم من خلال تسليع الإنسان، واستغلاله في الترويج لفكر أو منتج، فليس النهوض والتحضر بالجسد وحده من دون الفكر، كما أكد عالم الاجتماع بوديار أن ذلك يقوم على أسطرة الواقع وتعميم الوهم.