د. أحمد الزبيدي
يُقالُ فِي المثَلِ: ”عِشُ رَجبًا تَرَ عجبًا”، وَمَعْنَى المثلِ إِنْ تَعِشْ تَرَ مَا لَمْ تَكُنَ رَأَيْتَ.
ولا غضاضة في استعمال الأمثال والتمثل بها، فالله سبحانه ضرب الأمثال للناس، {لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم ضرب أمثالًا فيها الحجةُ البالغة، والحكمة الواضحة.
ويروى عن أمنا عائشة رضي الله عنها قولها: “كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا استراب الخبر يتمثل بقول طرفة (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وكان ابن عباس يقول عن هذا البيت (انه كلام نبي).
والمثل :”عش رجباً..” قاله الحارث بن عباد -وكان ذا مكانة في قومه- بعد أن طلَّق إحدى زوجاته وقد بلغ من العمر عتيًا- أَسَنَّ وكَبِرَ- فتزوجت غيره فأظهرت له من المودة ما لم تظهره لابن عباد، فلقي زوجُها الحارثَ فأخبره عن ذلك، فقال الحارثُ “عش رجبا ترى عجبا”. وهو – في رأيي- مثل شرود، صالح لكل زمان ومكان، فيه العبرة والعظة ، فمن عاش رجبًا رأى عجبًا، وزمننا هذا مليء بالعجائب،مفعمٌ بالغرائب، ومن قُدِّر له أن يعيش عمرًا طويلًا أو قصيرًا سيرى ما لم يره أو يخطر على باله! وهو تفسير للحديث الصحيح “إنَّهُ مَن يعِشْ منْكم بعدي فسيَرى اختِلافًا كثيرًا”. كان أهل الجاهلية يرفعون مظالمهم إلى رجب ثم يأتون فيه الكعبة فيدعون الله عز وجل فلا تتأخر عقوبة الظالم، فكان المظلوم يقول للظالم:”عش رجباً تر عجباً” قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان أهل الجاهلية يدعون على الظالم، وتعجل عقوبته، حتى إنهم كانوا يقولون: عش رجباً تر عجباً، أي أن الظالم تأتيه عقوبته في شهر رجب، كناية عن قرب نزول العقوبة به، قالوا له: ونحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر رضي الله عنه: هذا حاجز بينهم وبين الظلم، إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة، ولا لفساقها، فإنه تعالى يقول: “بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ” (القمر الآية 46) ومن العجب الذي ارتأيناه في شهر رجب هذا العام تجاسر الكثير ممن لم يتفقهوا في الدين على نشر الأحاديث الموضوعة في الهواتف وسائر وسائل الاتصال الأخرى، وتدور كلها حول شهر رجب وصيامه وقيامه، وتذهب هذه الأحاديث الموضوعة إلى الإفاضة في وصف ثواب صيام رجب فمنها من يرى صيام رجب يساوي مئة سنة ومنها من يجعل الثواب ألف سنة وألفين وثلاث سنوات، علمًا بأن رجب شهر كسائر الشهور ، و ليست له ميزة بين الشهور .
ولفظة “رجب” في اللغة مأخوذة من رجِبَ الرجلَ رجبَاً، ورَجَبَه يرجُبُه رَجْباً ورُجُوباً، ورَجَّبه وترجَّبه وأَرْجَبَه؛ كلُّه: هابه وعَظَّمه، فهو مَرْجُوبٌ. وسموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلون القتال فيه، والترجيب معناه التعظيم، والراجب المعظم لسيده . وله ثمانيةَ عَشَرَ اسمًا من أشهرها : “الأصمّ”لعدم سَماع قَعقعةِ السلاح فيه؛ لأنه من الأشهر الحرم التي حُرِّم فيها القتال، و “الأصبّ” لانصباب الرّحمة فيه، و “منصل الأسِنّة”.
وقد وضع العلماء كتبًا مختصرة في شهر رجب منها: ” أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب”، لابن دحية الكلبي (ت ٦٣٣هـ)، وكتاب :” فضائل شهر رجب” للخَلَّال (ت ٤٣٩هـ)،وكتاب:” حديثان أحدهما في فضل رجب” لأبي معشر الطبري (ت ٤٧٨هـ)، وكتاب ” جزء في فضل رجب” لابن عساكر (ت ٥٧١هـ)،وكتاب :” “تبيِين العجب بما ورد في فضل رجب”، للحافظ ابن حجر العسقلاني تقصى فيه الأحاديث الواردة في فضائل شهر رجب وصِيامه والصلاة فيه ، وقسَّمها إلى ضعيفة وموضوعة. وقد نفى فيه المؤلف ورود حديث صحيح يصلح للاحتجاج في فضل شهر رجب وصيامه، وصيام شيء معين منه ، أو قيام ليلة مخصوصة فيه، وبين أن هذا رأي جملة من العلماء سبقوه إلى ذلك. ثم قال –ابن حجر-: هذا النّهي مُنصرِف إلى من يصومُه مُعَظِّمًا لأمر الجاهليّة، أما إنْ صامه لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتْمًا أو يخُصُّ منه أيّامًا معيّنة يواظِب على صومِها، أو لياليَ معيَّنةً يواظِب على قيامِها، بحيث يَظُنُّ أنها سُنَّة، فهذا من فعله مع السّلامة ممّا استثنى فلا بأسَ به، فإن خصّ ذلك أو جعله حتمًا فهذا محظور،وقد ترجم الإمام مسلم في كتابه – “١١٤٣:” بَاب كَرَاهَةِ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا”
وإن صامَه معتقِدًا أنّ صيامه أو صيام شيء منه أفضل من صيام غيره ففي هذا نظر، ورجح ابن حجر المَنع.
وقد ذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه الحوادث والبدع:” أن تعظيم رجب بصوم أو عبادة: لا أساس له، بل الآثار ضده فعن أبي بكر أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه فقال: (أجعلتم رجباً كرمضان؟) ، وكره ابن عباس صيام رجب كله، وكان ابن عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا فإنه شهر تعظمه الجاهلية.
قال الطرطوشي: فهذه الآثار تدل على أن ما يعظمه الناس فيه إنما هي نزعات من بقايا عهود الجاهلية .
وقال أيضاً:” إن صوم رجب يُكْره على ثلاثة أوجه: أحدُها: أنّه إذا خصّه المسلمون بالصّوم في كل عامٍ حسب العوام، إمّا أنه فَرْض كشهر رمضان، وإما سُنّة ثابتة كالسنن الثابتة، وإما لأن الصّوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام باقي الشُّهور، ولو كان من هذا شيء لبيَّنه النبيُّ ـ
ولا يفهم من كلام الطرطوشي وابن حجر وغيرهما من العلماء نفي الفضل عن شهر رجب البتة ، لا يفهم ذلك فإن شهر رجب داخلٌ في عموم فضل الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: “إنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ، فَلَا تَظْلِموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم” (سورة التوبة الآية 36، وعيَّنها حديثُ الصّحيحَيْن في حِجّة الوداع بأنّها ثلاثة سَرْد (أي متتالية) ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، وواحد فرد ، وهو رجب (مُضر) الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وليس رجب (ربيعةَ) وهو رمضان، فهذه الأشهر قد فضل الله العمل فيها جملة، والعمل فيها مضاعف. ومن عدم الظُّلم فيه عَدَمُ القِتال، قال تعالى: بعد هذه الآية “فإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ”( سورة التوبة الآية 5) ومن عدم الظُّلم أيضًا عدم مَعصية الله، واستَنبَط بعض العلماء من ذلك ـ من دون دليل مُباشر من القرآن والسُّنّة نصَّ عليه ـ جوازَ تغليظ الدِّية على القَتل في الأشهر الحُرُم بزيادة الثُّلُث.
زر الذهاب إلى الأعلى
جزاك الله خيرا وكل الخير د.احمد الزبيدي واثابك الله الجنة وطيب العيش لهذه المعلومات القيمة وجعلها احسن الحديث .مع كامل محبتي واحترامي وتقديري.مهند الشريف
سبحان الله، كنا نظن قبل هذا المقال أن هذه الأحاديث التي نتناقلها صحيحة- للأسف- فجزاك الله كل خير وفي ميزان حسناتك يا شيخنا
بوركت د أحمد على هذا المقال المتميز ؛ باللغة والأدب والتاريخ والفقه..!
السلام عليكم د. أحمد
جزاك الله كل خير على هذه التوضيحات والأسترشادات
وأدام الله امثالك يا دكتور أحمد.
إن للأشهر الحرم مكانةً عظيمة وقد وردت في الآية مبهمة ولم تحدد اسماؤها، كما ذكرت يا دكتور احمد انه خُصّ من عامة المسلمين اما النبي عليه افضل الصلاة والسلام فلم يبينه فلا هو فرض ولا سنة ثابتة.
تسلم يداك يا دكتور احمد 👍🏻
كل الشكر والتقدير دكتور أحمد
ففي مقالك صححت لنا ما كان لدينا من معلومات مغلوطه 👌👌دمت وداام قلمك 🤝🤝🤝جزاك الله خيراا
نرى منك ابداعا دوما دكتورنا الحبيب
موضوع مميز، كالعادة مثل باقي موضوعاتك، دام لنا تألقك