عادة أتفقد “جيم” جاري الأسترالي النحيل الذي يصادف أن يجلس على شرفته المتصلة بالساحة التي أركن فيها سيارتي، والتي أشعر أنه حفظها عن ظهر قلب، وهو الذي نبهني إلى رقمها المميز الذي لم أختره، وعندما يغيب طويلًا، يشعرني بحاجة أن أطمئن عليه، فأناديه، ولا يلبث أن يخرج ببطء الشيخوخة، رغم أنه ما يزال يحتفظ برشاقة السهم شكلًا.
أمس، فعلت ذلك، ناديت عليه، فخرج، وبالكلمات والجمل المعتادة اطمأننت أنه بخير، ثم توغل الحديث بيننا يإنجليزية بالطبع بتُّ أقرب إليها فهمًا، ومن جملة ما قاله، أو طلبه، التماس أن أصطحبه بسيارتي في نزهة.
لا أنكر أن الطلب أحرجني، وأثق أنه طلبه من باب المودة الجاريّة إن صحّ التعبير، ومما ذكره أن كثيرين يفعلون ذلك تطوعًا، أي بلا أجر.. للعلم هنا كل شيء يقاس بالمال، وبالصراحة عند أولئك القوم، لكن ليس الأمر هكذا..
شعرت أني محرجة، وأن تمسًكي بعزلتي، ونأيي بنفسي عن الناس قد جُرح، وانتابني تمزّقان، فأنا قد اعتدت الوحدة، والاعتزال بكتبي، و”لاب توبي” الحميم، ولكني هنا أمام طلب إنساني، وفي الوقت نفسه أحسست أن الإنسانية التي أدّعيها واقعًا، وفعلًا، وكتابةً تنهار، فكيف لي أن أرفض طلب رجل مسنً، وكيف لي في الوقت نفسه أن ألبيه، وأنا أؤثر أن أختلي بكتبي، و”لاب توبي” طوال الوقت، ولو كنت وسط جمع غفير؟!
وأسعفني لساني باعتذار لطيف لأول مرة ربما تحدث، وأنا واثقة أنها لن تحدث.. ثم أخبرته أني سأقدم له قطعة “تشيز كيك” من احتفال بعيد ميلادي، فابتسم موافقًا، لكن ما لم أتوقعه، أنه حضّر لي هدية صغيرة، قد يكون بحث عنها مطولًا في بيته، منشفة طعام مورّدة بألوان جميلة، وقد أراد أن يشكرني، ويعايدني..
أحب أن أوثّق أن هذا الثمانيني يفوق بالذوق كثيرًا من الرجال الذين التقيت بهم هنا، وفي واسع الكون، وأعتقد أنه في شبابه كان شهمًا، حيث لمست ذلك منه في أكثر من موقف هنا، منها أنه اتّكأ مرة على كرسيه المتحرك، وقرع بابي صاعدًا إليَّ ليخبرني أني نسيت أن أطفئ أضواء سيارتي.
ولم أمنع نفسي من مقارنته برجل متصابٍ يماثله في السنّ، وليس له من غاية إلا الجري وراء غريزة تلاحق من النساء أوكارا تلذّ له، لا النساء بشخوصهنّ.. هو فقط يقزّم المرأة كلها فيهن…
لكن ما الحيلة باعتيادي عزلتي، ووحدتي بنفسي منذ كنت طفلة؟!
لعلّ من يشبهونني في هذا الفضاء، هم الأدرى بي، وبمشاعري.