بني الأرض هل من سامعٍ فأبثّهُ حديث بصيرٍ بالحقيقةِ عالمِ
وحديثنا اليوم عن اللّغة بقدر ما في هذا البيت من معنى ودلالة، لنسأل: هل تشكّل اللّغة عائقًا في الوصول إلى الأهداف ومسايرة الحضارة، وهل تكون من المرونة بما فيه الكفاية بحيث تمد يديها وتنهض بنا، وهل هي حيوية بالشكل، الذي يجعلها تنمو وِفق تفكير البشر وإدراكهم؟
يقول ابن جني (ت391هـ) عن اللّغة: “إنها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم”. هنا توضيح لفكرة أنّ وظيفة اللّغة الأولى هي التّعبير عن الرغبات وتحقيق الحاجات،وإذ يقول: لكلّ قوم لغة تخصّهم، فهذا ما يجعل من اللّغة ظاهرة اجتماعية عامة تسِم تلك الشعوب التي تتكلم بها.
الجدير بالذّكر أنّ اللّغة كائن عضوي ينمو ويهرم وربما يموت، ونتذكر العلّامة إبراهيم اليازجي بقوله: “اللغة بأهلها، تشبّ بشبابهم وتهرَمُ بهرمِهم ” وقد مرّ على هذا القول مئة وعشرون عامًا ( 1898) حين نُشر على صفحات مجلة “البيان” ولا نحتاج إلى التّذكير بأنّ هذه اللغة الساميّة التي نشأت في شبه الجزيرة العربية منذ ما قبل ظهور القرآن الكريم بستمئة عام أي منذ ما يقارب ألفي عام، وإذا قال جرجي زيدان إنّ اللغة العربية من أرقى لغات العالم، فأنا أضيف أن اللغة العربيّة ليست الأرقى فقط، بل هي الأكثر قدرة في التّعبير عن الجمال.
ولكون السّمة الأساسيّة لأي لغة أنّها خزّان العقل البشري للشعوب النّاطقة بها، فإن التّفكير لا يتم إلّا من خلالها مهما اختلفت موضوعاتها ومفرداتها التي صاغها الآباء والأجداد بوعيهم، وتتم من خلالها صياغة الأفكار التي تشكّل وعي الأبناء، فكانت هي المعبّر الحقيقي لحركة العقل الجمعي عن مُجمل إنتاجه العلمي والفلسفي والأدبي والفني عبر العصور، فعندما تملك اللغة أدوات فولاذية ستمنحها بريقًا مختلفًا عن ذلك الدفء الذي تبعثه الأدوات المستخدمة من الخشب، وأيضًا تختلف عن بساطة ورِقّة التي يدخل الطين في صنعها. من هنا تتخّذ المفردات أهميتها في تشكيل وعي الأفراد، وكلّما كانت مفردات هذه اللغة التي يستخدمها العقل بسيطة وبدائية، كان الإنتاج العقلي ضئيلًا ومحدودًا.
واللّغة بقدر ما يمكنها أن تفرض أُطُر الولاء العمياء للموروث وتحدّد هويّاتنا بشكل ديماغوجي قائم على القيود الآسرة، يمكنها صياغة وعينا الخاص بشكل يواكب تطوّر العصور، وارتفاع منسوب التقدّم العلمي والتكنولوجي وتطوّر أفكارنا لبلوغه، فهل تكون اللغة عائقًا للوعي؟ أم أنّ اللغة مفتاح لبلوغ أماكن في المنطق والوعي لم تدرَك من قبل؟
وللدلالة على جدليّة العلاقة بين العقل واللّغة وكيف يمكن للعقل أن يستخدم اللغة أداة للتّطور هو ما قام به فلاسفة التنوير بإدخال مصطلحات جديدة على اللغة الألمانية لتواكب التطور الهائل الذي حصل في الفلسفة في القرون السابقة، وعلى سبيل المثال كلمة (aufhenbeng) كمصطلح تقني فلسفي اخترعه الفيلسوف هيجل، ويعني المتناقض في الظاهر والمتوافق في الباطن، وقد استخدمها للدلالة على منطق كامل جديد في التاريخ البشري وهو المنطق الديالكتيكي أو المنطق الجدلي بين الشيء ونقيضه، فقد قضى هيجل من خلال هذه الكلمة على المنطق الأرسطي الصوري الذي حكم العالم على مدى ألفي سنة، وأسّس منطقًا جديدًا شرح من خلاله حركة التاريخ وفلسفته من جديد.
وبالرغم من تطور اللغة العربية في القرن العشرين على الطراز الغربي (الفرنسي، الإنجليزي) فإن الفوارق النوعية والكميّة بين الخزينين العربي والغربي في ما يخص المصطلحات الدّالة على المنتجات العلميّة ظلت شاسعة، والشّاهد حال اللغة اليوم في القرن الواحد والعشرين بعد تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي أبعدتها عن غاية التعليم الهادفة إلى بناء إنسان صالح ومنتج للمعرفة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الترجمات جسر عبور إلى ثقافات أخرى، وشريك في بناء الحضارة الإنسانية.
وعند النّظر إلى مفهوم الأدب نجد أنّه طريقة في استعمال اللّغة تكشف عن مقياس تطوّر الوعي الذي يستنسخ المثقفين، فهل يكون الذّخيرة التي تشكّل الأساس الصّلب لنظرية المعرفة بما يسهم في تغذية أخيلة الإنسان، ويتعرف من خلالها إلى ذاته وكيف يجب أن يكون، ويسبر من خلالها الطريقة التي تحتم على العالم حوله كيف بموجبها يتعامل معه؟ وهل فكرة أنّ العقل العربي عقل مستعار مهيمنة بشكل يعيق حركته نحو إنتاج الوعي؟ إذ أنّ اللغة ليست جسر تواصل فحسب، بل هي أداة إدراك ممهورة ببصمة شخصيّة.
مثلًا العربي يرى العالم بطريقة تتمايز عن الإنجليزي، والفرنسي، و الصيني، حيث اللّغة ظاهرة اجتماعية مثّلت الموروث الأكثر أهمّية كما قال هولدرلان في مقتطفاته:”إنّ اللّغة هي الأكثر خطرًا من كلّ الموروثات”؛ لأن كينونة أيّ شيء ترتبط بميراثه ومنشئه الذي يقتضي وجوده، والإنسان ورث اللغة كميزة تخصّه وحده ومُنحَت له لكي يشهد بأنّه ورِث ما هو كائنه، ومن منطلق أنّ اللّغة ليست إرثًا مُعطى فقط، بل مسؤوليّة، أو مَهمّة، فإن الأدب العالمي طوّرها بدءًا من الأدب السومري الذي اتّخذ من الأساطير ركيزة أساسيّة للبطولات، وتلاه الأدب البابلي الذي طوّرها إلى صنف آخر وهو الملحمة التي أسهمت في تطوّر وعي الإنسان ذاتَه، وصولًا إلى اللغة اللاتينيّة التي تعتبر الوريث الشّرعي للّغة اليونانيّة التي قامت بدور اللّغة الأدبيّة العالمية حينما اشتقّت من الحكمة منظومة من المفاهيم الفلسفيّة تمثّلت المظاهر الرّوحية ذاتها التي ينطوي عليها الأدب اليوم، والذي يعتبر عمودًا من أعمدة نظرية المعرفة.
وحيث إنّ الفكر كالروح لا يمكن التفاعل معه إذا لم يتجسد، واللغة جسد الفكر، وبما أن المنطق هو حاكم الفكر إذن قارتباطه باللغة ضرورة متعينة، وكما هو معلوم أنّ العقل النقدي لا يفصل اللّغة عن الفكر بل ويعتبر اللغة مقياس الوعي، ولا يمكن للإنسان أن يكون على مستوى من الوعي خارج اللغة، فإنّه يتوجّب الحفاظ على قيم وروح الأصالة في مقابل دفعها نحو الأمام بأدوات ومفردات أكثر جدّة غير تلك المضافة حديثًا للاستهلاك فقط مثال ( ترند، سيلفي، جوّال، موبايل، ..).
وفي الختام إنّ تناول أي موضوع من خارج اللّغة قد يُفهم بأنّه عبارات ومفاهيم مسبقة، وقد تكون بعيدة عن اهتمامات اللغة نفسها، وحيث أن كلّ لغة تحمل ثقافة ورؤية للعالم تخصّها، وتعبر عنها من خلال منظومة الأدب التي تنتجها كجزء من الفكر الإنساني، وكما أسلفنا فإن اللّغة هي أداة العقل الأولى للتّفكير المنطقي، وهي ميزة ليتم من خلالها خلق التنوّع الفكري الذي يكتمل باندماجه، وقد أشار القرآن الكريم لهذا الأمر بالآية الكريمة : “وَمن آياتِهِ خلْقُ السّماواتِ والأرضِ واختلافُ ألسِنَتِكُم وألوانكُم” (الروم – 22) فتكون(ألسنتكم) هي لغاتكم ودلالات على اختلاف رؤاكم وتنوّع الأفكار الحاضنة للإدراك البشري، فيكون تطوير اللغة ليس بالكمّ على حساب النّوع، بل حتّى الاسم الذي يلحق بالشيء ليس مجرد رمزٍ إنّما جزء لا يتجزّأ من الملكية لحامله كمفردة تحققّ كون اللّغة دلالة على مدلولات تؤكّد مفهومين أساسيين هما الوجود والذّات وانتماءهما للّغةٍ ما، ومن هنا نولي اللّغة أولوية على ما سواها من الفكر الدّيني، الجغرافي، القومي، كهويّة، حيث إمكانيّة التّطابق بين الكلمة والشيء أقوى وأكثر ظهورًا، ومهمّة تجديدها تتوافق مع أولئك الذين يمدّون أيديَهم للأخذ بيدها في سبُل البحث والمعرفة.