مقالات
فلسفة الحضور والغياب عند ابن عربي ريما آل كلِّزلي – السعودية
ابن عربي وهو محيي الدين محمد بن علي بن محمد الطائي الحاتمي، يعد من أبرز الشخصيات الصوفية في التاريخ الإسلامي. وُلد في الأندلس في القرن الثاني عشر الميلادي، وترحل في أرجاء العالم الإسلامي، مخلفًا تراثًا ضخمًا في لفلسفة الصوفية. عُرفَ بلقب “الشيخ الأكبر” له مؤلفات كثيرة تتناول موضوعات متعددة في الصوفية والفلسفة وعلم الكلام والتصوف.
من بين الموضوعات التي تناولها بالبحث والتحليل مفهوم”الحضور والغياب” الذي يعد من الأسس في فكره.
ما أهمية الحضور والغياب في فلسفة ابن عربي؟
يشير الحضور ( الشهود) إلى الوعي الروحي الكامل الذي يحققه الفرد عندما يتجلى الحق (الله) في قلبه كتجربة مباشرة للواقع الإلهي. هذا الحضور لا يعني مجرد الحضور الجسدي أو الذهني، بل هو حضور روحي يتعدى الإدراك العادي، بينما يشير الغياب إلى الانصراف عن هذا الوعي، أو الغفلة عن الحقيقة الإلهية، فيكون حالة النسيان أو الغفلة عن ذكر الله وعن الإدراك الروحي للوجود الإلهي، فالحضور والغياب ليسا حالتين ثابتتين، بل هما في تدفق مستمر وتفاعل.
استخدم ابن عربي الشعر وسيلة للتعبير عن الأحوال الروحية المعقدة، و ديوانه “ترجمان الأشواق” هو مثال حي يعكس تجربته الروحية ويصف رحلته في البحث عن الحقيقة الإلهية.
في هذا العمل، يمكن اعتبار الحضور في منزلة اللحظات التي يشعر فيها الشاعر بالاتحاد أو القرب من الحقيقة الإلهية، بينما يمثل الغياب اللحظات التي يشعر فيها بالبعد عن هذه الحقيقة.
وتتوضح معاني الحضور والغياب ف قوله:
ليت شعري لو درَوا
أيّ قلبٍ ملكوا
وفؤادي لو درى
أيّ شِعبٍ سلكوا
في هذا البيت، يمكن النظر إلى ظاهر النّص كما هو، ظاهرًا في ظل القراءة القلبية المفتوحة، (الحضور) بينما الغائب وكما يشرحه سعيد الغانمي في كتابه “أقنعة النص”بأنه الباطني،فيقول:
“إن الضمير في درَوا يعود على.. ” المناظر العلى عند المقام الأعلى حيث المورد الأحلى التي تتعشق بها القلوب”والقلب المقصود هو القلب الكامل المحمدي لنزاهته عن المقامات”.
تُظهر هذه الأبيات عمق العلاقة الروحية بين الصوفي والحقيقة الإلهية، حيث يتطلع الصوفي لأدنى خبر أو إشارة من الحبيب الإلهي حتى وإن كان في ظاهره جفاء أو تباعد، ويستقبل اللوم بقلب منصت ومستسلم، ويعبر عن ثقته العميقة بأن الحقيقة الإلهية تعلم السر الذي في قلبه، ولا يهمه إن كان الناس يعرفون هذا السر أم لا.
“ترجمان الأشواق”،مجموعة من القصائد التي تصف محبته الروحية وصراعه بين التقييد بالظاهر . يظهر صراع الصوفي بين المعرفة القلبية والتقيد بالشكل الظاهر للدين، حيث يشير إلى أن الحقيقة الإلهية قد تكون مغايرة لما هو متعارف عليه دينياً، ويشير إلى أن العين قد تفضح الشوق والحب الذي يكنه القلب للحقيقة الغائبة، فالحضور كما يراه هو حضور الله ” الحضور الإلهي” الذي هو موجود دائماً وفي كل مكان، لكن الإنسان يغفل عن هذا الحضور بسبب الشهوات والملهيات الدنيوية. يقول ابن عربي إن الله “معك حيثما كنت”، لكن الإنسان في غيبته يفشل في إدراك هذه الحقيقة، فلا يتم حضور الإنسان بصورته الكاملة عندما يغيب جزء منه “الإنسان الكامل”، وهو الإنسان الذي يتحقق فيه الحضور التام بالله. هذا الإنسان هو الذي يتجاوز الغياب ويعيش في شهود دائم مع الحقيقة الإلهية، ويصبح مرآة لأسماء الله وصفاته، فيرى أن “الإنسان الكامل” هو مفهوم مركزي يشير إلى الشخص الذي يمثل النقطة التي يلتقي فيها الإلهي بالبشري، وهو محقق لكمال الإمكانات الإنسانية في الوجود والمعرفة والأخلاق. الإنسان الكامل هو مرآة الصفات الإلهية وهو الوسيط بين الخالق والخلق.
ويفسر غياب الإنسان الكامل في الواقع المادي أو الاجتماعي في فلسفة ابن عربي من عدة زوايا:
-
الندرة والاستثناء: الإنسان الكامل نادر ومميز، وليس كل فرد قادرًا على بلوغ هذا المستوى من الوجود. وبالتالي، فإن غيابه يعكس حقيقة أن القليل من الناس يصلون إلى هذا الكمال.
-
السرية والخفاء: الإنسان الكامل لا يظهر كماله بشكل واضح للجميع، فقد يكون مستورًا بسبب حكمة إلهية، حيث أن الكمال الحقيقي ليس بالضرورة ظاهرًا للعيان.
-
التجلي الإلهي: الإنسان الكامل هو تجلي للأسماء والصفات الإلهية، ولأن هذه الأسماء والصفات لا نهائية وغير محدودة، فإن تجليها الكامل في شخص واحد قد يكون متجاوزًا للفهم البشري وبالتالي “غائبًا” عن الإدراك العادي.
-
المهمة الروحية: الإنسان الكامل قد يكون مشغولًا بمهمته الروحية التي قد تكون بعيدة عن الأنظار والأضواء، وبذلك يكون غيابه عن المجتمع هو نتيجة لتفانيه في السير الروحي والخدمة الإلهية.
-
التحدي الإنساني: وجود الإنسان الكامل قد يمثل تحديًا للأفراد الآخرين للسعي نحو الكمال الروحي والأخلاقي. غيابه يترك مساحة للناس للبحث والسعي الروحي الشخصي.
6.التعالي عن الصورة الجسمانية: فيؤكد على أن الإنسان الكامل هو مظهر للحقيقة الإلهية، وهذه الحقيقة تتعالى عن الصور الجسمانية المحدودة، وبالتالي فإن “غياب” الإنسان الكامل يمكن أن يكون تعبيرًا عن هذا التعالي.
-
الكمال المطلق غير المحدود:الكمال المطلق هو صفة من صفات الله وحده، والإنسان في أحسن الأحوال يمكن أن يعكس جزءًا من هذا الكمال. ولا يمكن أن يتجلى بشكل كامل في أي إنسان، مما يجعل الإنسان الكامل “غائبًا” عن الوجود بمعناه الكامل، وكون الإنسان الكامل هو مفهوم يشير إلى شخصية متحققة روحيًا ومعرفيًا، تجمع بين صفات البشرية والألوهية، وتعكس الأسماء والصفات الإلهية في العالم. وفقًا لابن عربي، فإن الإنسان الكامل هو الخليفة الحقيقي لله في الأرض وهو المحقق للغاية القصوى من خلق الإنسان.