*يزخر القرآن العزيز، من أوله إلى آخره؛ ببديع اللطائف القرآنية، ورفيع المعاني البيانية، وأنوار الحقائق الربانية.
فأينما يَمَّمْتَ وجهكَ، وحيثما أرسلت طرفَك، وكيفما أعملت فكرَك؛ في سور القرآن ، وآيات الفرقان، رأيتَ ذلك التناسق البديع، وألفيت ذلك التناسب الرفيع، ووجدت ذلك الإعجاز المنيع، بأحسن نطق، وأفصحه، وأبينه، وأعجبه، فلله دره ؛ ما أحلى نظمه وأبعد غوره ، وأنقى درّه، وأعلى قدره، وأعجب أمره!
إذا نطَقَ أصابَ، وإنِ استُمْطِرَ صابَ، وإذا سُئل أجاب !
في حلقات هذه السلسلة العلمية ؛ نستعين الله عز وجل على استنطاق صوابه، واستمطار صابه، والاسْتِظْلالِ بظلاله، و التنعم في رحابه، والاقتباس من شهابه، بتسليط الضوء على شيء من عجائبه، و استجلاءِ بعض غرائبه، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك-بعد الله – على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما “تفسير الطبري “، و “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، و”تفسير الكشاف” للإمام الزمخشري، ومعاجم اللغة، مثل “لسان العرب” لابن منظور، والقاموس، للفيروز أبادي، و”شمس العلوم” لنشوان الحميري، وكتب المفردات، مثل كتاب “ألفاظ القرآن للراغب” وكتب الأدب، وكتب البلاغة، وكتب توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، لا سيما كتاب “أسرار التكرار في القرآن” المسمى؛ “البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان”، و“دُرة التنزيل وغُرة التأويل”، للخطيب الإسكافي و”ملاك التأويل” للغرناطي، و”الدر المصون” للسمين الحلبي، كذلك دواوين الشعر، وكتب الأدب، و الرسائل والخطب ، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة والعلاقة القريبة والبعيدة.*
“البقرة” (ص)
القول في تأويل قوله تعالى:{وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]. قال في “الفتح” في شرح هذا الموضع: قوله: “وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية”: في هذه الآية بيان أصل السحر الذي يَعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود – عَلَيْهِ السَّلَام – ومما أُنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الأول؛ لأنَّ قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح – عَلَيْهِ السَّلَام – على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودًًا في زمن نوح – عَلَيْهِ السَّلَام – إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضًا فاشيًا في قوم فرعون، وكل ذلك قبل سليمان، واختُلِف في المراد بالآية:
فقيل: إن سليمان كان جَمَعَ كُتُب السحر والكهانة، فدفنها تحت كرسيه، فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ، فلما مات سليمان، وذهب العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان، فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسيّ، فحفروا، وهو متنحٍّ عنهم، فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرًا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك، وقالوا: إنما كان ساحرًا، فنزلت هذه الآية.
قال الإمام الماوردي قي تفسيره: وفي {مَا} ها هنا وجهان: أحدهما: بمعنى الذي، وتقديره الذي أنزل على الملكين. والثاني: أنها بمعنى النفي، وتقديره: ولم ينزل على الملكين، وفي الملكين قراءتان: إحداهما: بكسر لام (الملكين) ، كانا من ملوك بابل وعلوجها؛ هاروت وماروت ، وهذا قول أبي الأسود الدؤلي ، والقراءة الثانية: بفتح لام (ملكين) من الملائكة. وفيه قولان: أحدهما: أن سحرة اليهود زعموا ، أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره: وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، وهما رجلان ببابل…
قال ابن حزم/ الفصل :” وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا فِي الْآيَة من نَص وَلَا دَلِيل على أَن الْملَكَيْنِ علَّما السحر، وَإِنَّمَا هُوَ إقحام أقحم بِالْآيَةِ بِالْكَذِبِ والافك، بل وفيهَا بَيَان أَنه لم يكن سحرًا بقوله تَعَالَى {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل} وَلَا يجوز أَن يَجْعَل الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا إِلَّا ببرهان من نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة، وَإِلَّا فَلَا أصلا، وَأَيْضًا فَإِن بابل هِيَ الْكُوفَة، وَهِي بلد مَعْرُوف بقربه، محدود مَعْلُومَ لَيْسَ فِيهَ غَار و فِيهِ ملك، فصح أَنه خرافة مَوْضُوعَة، إِذْ لَو كَانَ ذلك لما خفى مكانهما على أهل الْكُوفَة فَبَطل التَّعَلُّق بهاروت وماروت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.
قال صاحب الأنموذج :” فإن قيل. قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}َ . يدل على أن الله تعالى أنزل علم السحر على الملكين فلم يكن حراماً؟
يعطيك العافية دكتور وبورك قلمك