لطيفة محمد القاضي
والدي فارس مغوار. كنت أدقق النظر في كل ما يقول وكل ما يفعل. مع كل إطلالة شمس، كان يبذل من الجهد قدر ما بذله في اليوم السابق، وحين أسأله: هل تعبت؟ هل تشعر بالألم؟، كان يلتفت إلى السماء باسمًا ويقول: إنها الحياة. لم أره يومًا يشتكي أو يتأفف.
والدي صياد في البحر، ضخم الجسم، متين البنية. فوق كتفيه الواسعتين يحمل شبال الصيد الكبيرة، يرتدي سترة صوفية بلون بني داكن، مغطاة بالملح البحري من الصيد في عرض البحر وعلى رأسه يرتدي قبعة صياد بيضاء قديمة من الكتان، تحميه من أشعة الشمس اللاهبة.
أسير بجانبه كل يوم إلى قرية الصيادين ممسكة بيده الخشنة، أنا الطفلة التي تبلغ من العمر الثامنة. لم أشعر يومًا بأنني أقل من أميرات الأساطير؛ لأنه صنع لي من قلبه عرشًا. لم أتخيل يومًا أن مكروهًا يصيبه فهو القوي الخارق. ينبع من نظرته شعاع أمل وسكينة لا يخبو، تحتضن قلبي وتؤمنه من كل المخاوف.نتجول داخل البحر، نتحاور حوارات توجز العالم في أساطير يسردها على مسامعي، فهو حكواتي آسر، يأسرني بروعة الحكي.
صوته الرخيم يختلط بهفيف الأمواج المتهادية؛ لينشر السكينة في أعماق قلبي الصغير. يذوب مرارة الأيام الحالكة التي كانت تتراءى لي؛ فكان بين الحين والآخر يرمي فوقها ستارًا من العذوبة بيني وبين جدار الواقع المظلم الذي كانت نظراتي ترتطم به من حين إلى آخر. كانت طفلة أخرى تكبر داخلي.. طفلة انتصبت داخلها الأسئلة كشعلة نار حامية.
كان والدي يبدو واثقاً ومصمماً، فقد عاش حياته كلها في عرض البحر. كان يعرف كيف يتصرف في مواجهة أهوال البحر.
مرت الأعوام وأنا أرافق والدي إلى الصيد. في الوقت نفسه، كان لدي شغف في القراءة؛ فشغلت القراءة وقتاً كنت أقضيه مع والدي على القارب. بدأت أتنقل من كتاب إلى آخر كمن يمشط أزقة المدينة،يبحث عن أهله وعمن يحب.
تراكمت الكتب كما يتراكم النحل على الزهرة لتصنع عسلاً سائغاً. والدي كان أول العظماء في حياتي.تنقلت في الحياة وعرفت الكثير، ولكن أحداً لم يمسح دموعي كما فعل هو، ولم يطرد كوابيسي إلا هو، ولم يأخذني أحد للصيد كما فعل هو، فهو من بين العظماء الذين دخلوا حياتي. كان هو الوحيد الذي يخبرني بما يكفي عما يوجد هناك، خلف كل سماء، و ذات يوم سألته:
يا والدي، ما الذي يوجد خلف السماء؟
فسألني : هل تتذكرين حلمك؟
*أي حلم؟
** الحلم الذي حكيته لي ذلك اليوم
*أي يوم؟
ويستمر على هذا المنوال إلى أن أحكي له حكاية سعيدة ملؤها الفرح والسعادة. حينها فقط تتغير قسمات وجهه، ويرفع أصبعه إلى السماء ويقول: الذي هناك يوجد فيه جميع أحلامنا، جميع أحلامنا موجودة في الحقيقة، تنتظر خلف السماء، وإذا حافظتِ عليها وتذكرتِها ستتحقق، وتصبح واقعاً تعيشينه كل يوم. إياكِ ونسيانها وإلا، فلن تكبري؛ لأن من ينسى أحلامه لا يكبر أبدًا. أتذكر أجمل أحلامي. عندما كنت صغيرًا، حلمت بأن أكون صيادًا مثل والدي، وها أنا الآن صياد أملك قاربي الخاص.
كنا نضحك بحرارة، وكان الكثيرون يندهشون لرؤية والدي يأخذني للصيد في قريتنا. كان يصر على معاملتي كالبحارة المتمرسة، فبينما هو يرفع الشباك، كنت أتكفل بذراع الدفة، وكان يقول لي: تهانينا أيتها القائدة، فينفتح قلبي وتلج إليَّ الكلمات كشعاع ضوء ينفتح به صدري.
كان يمسك بشبكة صيد كبيرة مرقعة ومرتبكة. كان يتفحصها بعناية مستعدًا لإلقائها في المياه عند شروق الشمس. كان ينحني بجسده السميك ليحكم قبضته على الشباك، ثم يدير جسمه رافعًا كتلة الصيد، متنقلاً إلى الوراء وجسده يئن تحت الحمل الثقيل وخطواته المضطربة.
كنت أجلس في مؤخرة القارب، أتأمل هذا العرض الذي يتكرر دائمًا. محاوراتنا في عرض البحر أثمن من كنوز الدنيا وما فيها. كان والدي فرحة حياتي ولياليّ، يستخلص رزقنا من الأمواج، فهو فارس مغوار. لم أره يومًا يشتكي أو يتأفف.
كنت أسأله وأنا كلي حرص على المعرفة: ما الذي يوجد تحت الماء غير الأسماك؟ فيقول بحرص: الكوابيس. عندما تستيقظين على كابوس يا ابنتي، خذي صدفة وقصي عليها ما رأيت، ثم أرمي الصدفة في البحر، فلا يعود الكابوس يطاردك مرة أخرى في منامك.
يقول لي دائمًا: حياتنا يا ابنتي بسيطة، تنزلق أيامها ببطء، رتيبة. كل ثروتنا عبارة عن مسحوق الذهب الأحمر الذي يزين السماء عند الشفق. نفوسنا صقلها العمل الدؤوب، لا نطلب من الله سوى أن نظل واقفين على أقدامنا. عمومًا، البسطاء لا يطلبون شيئًا من أحد. البسطاء صمتهم حكمة، لأن الكلمات تزرع القمح ولا تصنع السمك. في هذا العالم، البحر وحده يتكلم. وحدها الأمواج تناجي رمال الشاطئ. يا ابنتي، لا حياة لمن لم يكن صيادًا متمرسًا. ربما أصبح متمرسًا لاحقًا.
ولكني ما زلت أبحر. ووالدي لم يتركني أبدًا.
زر الذهاب إلى الأعلى