د. أحمد الزبيدي
بلغ أبو الطيب المتنبي في شعره ما لم يبلغه شاعر من قبل أو من بعد؛ إنْ على صعيد المبالغة في الفخر، أو على صعيد الإسراف في المدح والهَجْر، أو على صعيد اختلاف الأساليب، من غزلٍ، أو نسيبٍ، أو تشبيب …الخ، غير أن سرَّ خلوده وظهوره على الشعراء؛ كان في شعر الحكمة، وتقمصه صورة الفلاسفة والحكماء، فقد تجلت حكمته على طول ديوانه وعرضه، حيث وظفها أبو الطيب فأحسن توظيفها؛ في تأكيد المعاني التي يريدها، أو في سبيل القضايا التي يتبناها أو يدافع عنها، أو يسعى لتشييدها، وقاريء المتنبي يدهشه ما يراه من تفجر مبكرٍ لينابيع الحكمة في نفسه وشعره، ولا غرو أن عُدَّ ديوانهُ من أجود دواوين الأدب وأحسنها، فقارئه ينتقل فيه من روض إلى روض، ويتحول من بستان إلى بستان ، يجتني منها أزاهير الحكمة، ويقتطف منها روائع الأدب، ويقتبس منها رفيع القيم، ولا يفتأ يغترف من مكارم الأخلاق.
ولا غرو في ذلك فحكمته من أرقى ضروب الحكمة، ومعانيه تستفز الهمة، وما ذلك إلا أنه بنفسه “أمة”، آتاه الله حفظ القرآن، وترجمته في مطاوي الكلام والبيان ، ولا جرم أن اتخذه بحرًا يستخرج منه الجواهر والدرر ، وأفانين الكلام والصور.
وقد ذكرنا سابقا أنه تضلَّع من اللّغةِ العربيَّة، مما يسر له فقهها ،وحفظ غريبها، واستحضار شواهدها، وإحصاء شواردها، والوقوف على أسرارها، وأتيح له من ذلك ما لم يتح لشاعر قط ؛ حاشا الإمام الشافعي؛ أما الشافعيُّ فقد غلب عليه الفقه والحديث والأصول، وأما المتنبي فقد غلب عليه الشعر والقريض !.
ما رأى الناس ثانيَ المتنبي
أي ثان يرى لبكر الزمان؟
هو في شعره نبي ولكن
ظهرت معجزاته في المعاني
ذكر ابن الصابِئ: “أنَّ ابن العَمِيد كانَ يُجلِسُ المُتَنَبِّي، ويقعدُ بين يديه، فيقرأ عليه “الجمهرة، لحفظه إياها عن ظَهر قَلْبٍ”.
وقلما رأى الناس مثله في علو الهمة، وكمال العقل والشجاعة، وجودة الرأي، وهو القائل:
ولم أر في عيوب الناس عَيْبًا
كنقص القادرين على التَّمامِ
والمتنبي-رحمه الله- وهو صبيّ، حين راهق البلوغ ، ظهرت عليه مخايل الرجولة والعبقرية والنبوغ، وأخذ يتدرج في مدارج الرفعة ومصاعد الشجاعة، ويظهر منه ما لا يرى إلا في الأبطال والعظماء والشجعان .
ذكروا أنه مر ّ برجلين قد قَتلا جُرذاً، وأبرزاه يعجِّبان الناس من كبرَه، فقال:
لقَدْ أصْبَحَ الجُرَذُ المُسْتغيرُ
أسيرَ المنايا صريعَ العَطَبْ
رَماهُ الكنانيُّ والعامريُّ
وتَلاَّهُ للوَجْه فِعْل العربْ
كِلا الرَّجُلَينِ إتَّلى قَتْلَهُ
فأيُّكما غّلَّ حُرَّ السَّلَبْ
وأيُّكما كان من خَلْفِهِ؟
فإنَّ به عَضَّةً في الذَّنَبْ !
قتل الرَّجلان، الكنانيُّ والعامريُّ، هذا الفأر الكبير، فأخرجاه ليعجِّبا الناس من كبره ومن غاراته المتكررة حتى ظفرا -أخيرا- بالتغلب عليه وقتله، فمن هنا نعته :” بالمُسْتغيرُ “،ولا يُغير إلا الكتائب والجيوش. ثم لما فرغ من تضخيمه والنفخ فيه، ذكر أن هذا الجرذ قد ساقه حظه التعس إلى “أسر المنايا” كما يقع العدو الغاشم في الأسر، وذلك حين رماه الأحمقان بالسهم في مقتل كما يفعل بالعدو ،فأي رجلين عاقلين يجمعان على قتل ، ثم لا يكون المقتول إلا جرذا !! ثم لا يكتفي أبو الطيب الساخر بهذا ، بل يضيف إنهما اشتبكا معه يصاولانه تارة، ويجاولانه تارة، حتى تمكنا من صرعه؛ فعل العربي الذي لا ينفك يفعل ذلك بعدوه حتى يتمكن من صرعه على وجهه مقتولًا، وذلك قوله :”تلاّه للوجه فعل العرب”، ثم يضيف بعدُ : كلاكما تولى قتله، وذلك لكبر الجرذ وشدته وشراسته ، ولكن من منكما الذي غلَّ فسرق حرَّ ثيابه، وثمين سلاحه، كما يغل السارق في الحرب من أسلاب القتلى، ويخفيها عن أصحابه؟ ثم عاد فقال : أيكما خدعه فهاجمه من ورائه فصرعه، ثم غافله فعضه في ذنبه، فإن آثار العضة بارزة تشي بذلك!!
قال العلامة محمود شاكر:” وأنت إذا عدت فقرأت الأبيات … رأيت بلاغة الرجل في السخرية ودقته في اختيار اللفظ ،وإيجاز الصورة التي يريد أن يتفكَّه لك بها.
ورأي محود شاكر لا يبعد كثيرا عن رأي العقاد – رحمه الله- في أبي الطيب، فقد قال فيه: “فخر العرب، وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات”. اه
ولا يكون الشاعر كذلك إلا إذا وُلد حكيمًا، وعاش حكيمًا، وهيهات هيهات.
ومن قبل محمود شاكر والعقاد، استفز المتنبي بشعره وحكمته الإمام الثعالبي، فوصفه في اليتيمة بقوله :” نادرة الْفلك وواسطة عقد الدَّهْر، … شَاعِر سيف الدولة الْمَنْسُوب إِلَيْهِ، الْمَشْهُور بِهِ إِذْ هُوَ الَّذِي رفع من قدره، ونفق سعر شعره، حَتَّى سَار ذكره مسير الشَّمْس وَالْقَمَر، وسافر كَلَامه فِي البدو والحضر، وكادت اللَّيَالِي تنشده وَالْأَيَّام تحفظه. كَمَا قَالَ وَأحسن مَا شَاءَ:
وَمَا الدَّهْر إِلَّا من رُوَاة قصائدي
إِذا قلت شعرًا أصبح الدَّهْر منشدا
وكما قَالَ:
وَعِنْدِي لَك الشرد السائرات
لَا يختصصن من الأَرْض دَارا
إِذا سرن من مقول مرّة
وثبن الْجبَال وخضن البحارا
والعجيب أن البيت الأخير ترجمة صادقة عما يشعر به المتنبي في نفسه.
قال ابن رشيق في “العمدة” : “وليس في المولدين أشهر من أبي نواس، ثم حبيب والبحتري، ثم ابن الرومي، وابن المعتز، وامرئ القيس في القدماء؛ … ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس”.
ولعل السر في شيوع حكمة المتنبي وخلودها؛ ما ذكره ابن الأثير، قال: ” سافرت إلى مصر، ورأيت الناس يشتغلون بشعر المتنبّي، فسألت القاضي الفاضل فقال: إنّ أبا الطيّب ينطق عن خواطر الناس”.
وقد ذكرني كلام ابن الأثير في المتنبي، بكلام الانجليز في شاعرهم الأكبر “شكسبير”، قالوا :” ولقد كان قلب شكسبير كأنه مخلوق من قلب الإنسانية ذاتها، لأنه كان يتحدث فيلم بخطرات القلوب وخلجات النفوس، ولقد كان لسانه – كما يقولون أيضا – كأنه يحفظ كل الكلام الإنساني، لأنه كان يعبر فيحسن التعبير ويؤثر فيجيد التأثير”. ولقد أصاب الانجليز في وصفهم، فالتأثير هو كل شيء في الشعر، وهو سر خلوده، وسبب بقائه على وجه الدهر، وما الشاعر العظيم إلا الذي يشعر الأشياء التي تلمس قلوب الناس وتؤثر فيها تأثيراً عميقاً”، وبمعنى آخر: |ينطق عن خواطر الناس”.
استنشد سيفُ الدولة أبا الطيّبِ قصيدَتَه الميميّة وكانت تعجبه، فلما قال له:
وقفتَ وما في الموت شكُّ لِوَاقِف
كأنَّك في جفْن الرَّدَى وهو نائمُ
تمرُّ بك الأبطالُ كَلْمَى هَزِيمةً
ووجْهُك وضّاحٌ وثغْرُك باسِمُ
فقال: قد انتقدنا عليك من البيتين كما انْتُقِد على امرئ القيس قوله: كأنّي لم أركبُ جوادًا ولم أَقُلْ
لخيلي كرّي كَرَّةً بعد إجفالٍ
ولم أسبأ الزّقَّ الرَّوِيَّ للذَّةٍ
ولم أتبَطّن كاعِبًا ذات خلخالٍ
ولك أن تقول الشطر الثاني من البيت الثاني مع الشطر الأول وشطره مع الثاني. فقال: أيَّدك الله، إنْ صح أنّ الذي استَدْرَكَ على امرئ القَيْس أعلمُ بالشِعْر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس، وأنا ومولانا يعرف أنّ الثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك، لأنّ البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفاريقه، لأنْه هو الذي أخرجه من الغزْل إلى الثوبيّة، وإنّما قرن امرؤ القيس لذَّةَ النساء بلذَة الركُوب إلى الصَّيْد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموتَ في أول البيت أتْبَعْتُه بذِكْر الرَّدَى وهو الموت لتَجَانُسِه، ولما كان وجه المنهزِم لا يخلو من أن يكون عَبُوسًا وعينه من أن تكون باكية. قلت: (ووجهُك وضّاح وثغْرُك باسِمُ) لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإنْ لم يتَّسع اللفْظُ لجمعِها. فأُعجِب سيفُ الدولة بقوله، ووصله بخمسمائة دينار”.
على أن أبا الطيب على ما بلغ من قمم الشعر، وسبح في بحاره، إلا أن عددًا من النقاد قد عابوا عليه أشياء، سنعرض لها في حلقات ثم نرد عليها.
ومنها؛ أن أول أبيات قالها المتنبي-بحسب وكيع- هي:
بأبي مَنْ وَددْتُهُ وافَترقْنا
وَقَضَى اللهُ بَعْدَ ذَاكَ اجْتِماعا
وافترقْنا حَوْلاً فَلمّا التقينا
كانَ تَسْلِيمُهُ عَليَّ وَدَاعَا
يقول: أفدي بوالدِي الحبيبَ الذي وددْتُهُ فافترقنا، وقضى الله الاجتماع بعد ذلك غير انها لم تطل مدة الاجتماع الثاني، بل كانت متصلة بالوداع.
وقد عيب على المتنبي في هذين البيتين أمورا منها؛ أخذه المعنى من قول جحظة :
زائرٌ نَمَّ عليه حُسْنه
كيفَ يُخفي الليلُ بدراً طَلعَا؟
راقَبَ الغفلة حَتَّى أمكنتْ
ورعا الحَارس حَتَّى هَجَعَا
ركب الأهْوالَ في زَوْرتِه
ثُمَّ ما سَلم حَتَّى وَدّعَ
وما أراه عيبا، فهذا في الشعراء كثير، وهي سنة جارية.
وما من شك أن هذا المعنى الذي تضمنه البيت الثاني ليس فيه زيادة على ما جاء به “أبو الشيص”:
يا حبّذا الزورُ الذي زَارا
كَأنَّهُ مُقتبسٌ نَارا
نَفْسِي فِداء لكَ من زائرٍ
مَا حَلَّ حتَّى قِيلَ قَدْ سَارا
مَرَّ بِبابِ الدَارِ فاجْتازها
يَا ليْتَه لَوْ دَخَلَ الدَارا
وأنا لا أريد أن أقارن بين البيتين، ولكن نظرة واحد إلى بيتي المتنبي تريك دقته، وقوة عبارته، ووضوح بيانه، فأي دقة وأي قوة وأي بيان امتاز بها هذا الرجل!
وقد عابوا عليه أيضاً عليه تفديته محبوبه، ولا معابة عليه، فقد قالها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لسعدٍ في يوم أحد، فقال له:” ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.». والحديث في البخاري.
وفي أذكار النووي :” ولا بأس أن يقول الإنسان لآخر : جعلني الله فداكَ، أو فِداكَ أبي وأُمي، وما أشبههُ”.
وقد أكثر المتنبي في شعره منها، ولا تثريب عليه، فمثله فيها مثل غيره من الشعراء.
وقد عابوا عليه أيضاً تكريره كلمة “افترقنا” في البيتين بصيغة واحدة، من غير فائدة، فوقع في الاستثقال والكراهة.
وليس هذا على عمومه؛ فإن التكرار له مواضع يحسن فيها،.. وقد جاء في التنزيل وفصيح الشعر منه شىء كثير، فمن ذلك قوله تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)،. وقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)،. فيكون للتوكيد كما يقول القائل: ارم ارم، واعجل اعجل.
زر الذهاب إلى الأعلى
مقال جمع محاسن كثيرة ودررا جميلة وطرز ثوب الكلمات بنقد حسن لا يخلو من المنطق والايضاح والجلاء للقارئ عن مكنون القصيد وفصيحه وبلاغته .افدتنا وزودتنا باللالئ الثمينة التي تسر الناظرين والمتاملين .الله يعطيك العافية ويزيدك من علمك وسعة اطلاعك ومعرفتك في الادب .حقا انت دكتور احمد الزبيدي بليغ في التعبير دقيق في التفاصيل حصيف في البلاغة والبديع .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولعملك الدؤوب تحياتي .مهند الشريف
أحسن الدكتور أحمد الزبيدي تقديم نبذة طيبة عن الشاعر الجهبذ. بارك الله في جهوده وعمله.
مقال لا شك جميل د. أحمد الزبيدي
كالعادة مبدع في مقالاتك د. أحمد الزبيدي
لا يمل القارئ منها
جزاكم الله خيرا
د. أحمد الزبيدي … أحسب أن الله تعالى طوع لك الحرف كما طوع الحديد لداوود
لو كنت ذا رأي – ولا رأي لمن لا يطاع- لقررت دراسته على دارسي الادب في الجامعات
شي طيب اسلوبك جذاب للقراء.
بارك الله فيك دكتور أحمد الزبيدي
اللله، الله، الله.. د. أحمد الزبيدي
منهج جديد في دراسة المتنبي ، لا أظن أنه انتهج من قبل، أرجو أن تكون سابقا فيه، ولك مني خالص الدعاء وتمنياتي لك التوفيق
أخي الفاضل الحبيب د. أحمد الزبيدي
عندما قرأنا لك”عصمة الأنبياء” سررنا جدا، وتمنيت في نفسي لو أن هذه السلسلة تمتد، وقد طرحت الفكرة عليك، وفعلا لبيت رغبتنا، واليوم بعد قراءتي لسلسلة المتنبي أرجو من الله أن يفتح عليك وتمد السلسلة حتى تلم بحياة المتنبي وما فيها من خبايا وزوايا مظلمة.
ما شاء الله أبدعت دكتور أحمد الزبيدي
مقال رائع ومتعوب عليه، لو المتنبي حي لشكرك كثيرا د. أحمد الزبيدي
السلام عليكم يا دكتور أحمد الزبيدي
ما زلت تفيض علينا مما تكنزه وتكرم به أزادك الله من فضله.
دكتورنا،وحبيبنا، وأستاذنا، ومعلمنا، وأديبنا، وصديقنا وأخانا، .. د. أحمد الزبيدي
والله إني لأستمتع عندما أقرأ شيئا مما تكتب، وأهز رأسي طربا لما تجود به علينا من مرادفات ومعانٍ ، وشرح ، وتفسير..
والله العظيم إنك أفضل من يكتب،علما بأنني لست أفضل من يقرأ لك، ولكني أكثر من يستمتع !