قال العلامة محمود محمد شاكر -رحمه الله – :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
نوح عليه السلام في التنزيل الحكيم والحديث الشريف
إذا كان الأنبياء كلهم صفوة خلق الله، فإن نوح عليه السلام من صفوة الصفوة، فهو بالاتفاق من أولي العزم من الرسل. قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 35)، وحسبك انه لبث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ؛ ألف سنة إلا خمسين عامًا في دعوة قومه ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل!
قال تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62].
قال النووي في التهذيب:” وكان نوح أَطول الأَنبياء عمرًا، وقيل: إِنه أَطول الناس جميعًا عمرًا مطلقًا”.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: “كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام”.
قال ابن كثير: وَهَذَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّهُ بِبَلْدَةٍ بِالْبِقَاعِ تُعْرَفُ الْيَوْمَ بِاسم “كرك نُوح”، وَهُنَاكَ جَامع قد بنى بِسَبَب ذَلِك فِي مَا ذكر. وَالله أعلم
وعلى الرغم من مكانة نوح عليه السلام؛ إلا ان ذلك لم يمنع أهل الباطل من رشقه بسهام الباطل والبهتان.
فتمسكوا بقوله الله تعالى : {ونادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ }. (هود: 45 – 47)، وردُّ الله سبحانه : {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ }. يدل على أنه لم يكن ابنًا، وإذا كان كذلك كان قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}. كذبًا، ثم إن سؤال نوح ربَّه كان معصية، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} يدل على أنه لم يكن ابنًا، وإذا كان كذلك؛ كان قول نوح: { إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} -حاشاه- كذبًا وزورًا. وقالوا: “سؤالُ نوح عليه السلام فيه قلة أدب ومعصية”، بدليل قوله تعالى: {فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ}، وقوله : {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}، وقوله : {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، قال الزمخشري “فتوح الغيب 8/92″ :” تعليلٌ لانتفاء كونه من أهله، وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب”.
وكلام الإمام الزمخشري صحيح بلا شك؛ فالْعِبْرَةَ بِقَرَابَةِ الدِّينِ، وأواصر الإيمان، ووشائج التقوى، لَا بِقَرَابَةِ النَّسَبِ، فَإِنَّ فِي قَرَابَة النَّسَبِ بين الأب وأبيه غاية في القوة، وَلَكِنْ لَمَّا انْتَفَى الدِّينِ لَا جَرَمَ نَفَاهُ اللَّه تَعَالَى بِأَبْلَغِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ قَوْلُهُ:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}.
وقد اختلف المفسرون في هذا الابن على ثلاثة أقوال، فالأكثرون على أنه ابنه لصلبه، وهو الأقوى، لصريح قوله تعالى: { إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، وقوله : {يا بني}. قال الفخر الرازي “مفاتيح الغيب 17/ 350″ :” وَصَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الِابْنِ لِهَذَا السَّبَبِ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا الظَّاهِرَ إِنَّمَا خَالَفُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كَافِرًا، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كافرًا بنص القرآن، فكذلك هاهنا.