مقالات

هاجس الجنون وجلد الذات في “حكاية مغربية” رواية البشير الدامون

المضمون حكاية مجتمع بأكمله

البشير الدامون

قراءة رجاء بسبوسي    –    المغرب

وفق بنية زمنية تتخذ منحى دائريًا يختتم البشير الدامون روايته “حكاية مغربية” بعبارة : “احكي حكايتك. إنها جديرة بأن تسمع”. ولم لا تسمع إذا كانت أهم رسائل الكاتب في منجزه السردي هذا أن الإنسان لم يخلق ملاكًا ولا يمكنه أن يكون كذلك، وإنما على الإنسان أن يصارع كي يغلب جانب الخير فيه جانب الشر، ولا خير من مقولة لويجي بيرانديلو التي نستشهد بها في هذا الصدد حيث قال: “إن كل واحد منا عبارة عن عدة أشخاص، عدد كبير من الأشخاص طبقًا لجميع احتمالات الوجود التي تكمن فينا”.

يعيد المتن الروائي “حكاية مغربية” الصادر سنة 2016 عن المركز الثقافي العربي إحياء فترة قاتمة من تاريخ المغرب المعاصر في سيرورة زمنية تمتد من 1984 إلى 1999، حيث أماط اللثام عن فساد الطبقات الاجتماعية وفساد بعض الأجهزة والمؤسسات كالشرطة، حرس الحدود، القضاء، الأحزاب السياسية، والمجالس البلدية…، كما عكست أحداث الرواية واقعًا اجتماعيًا مأساويًا معظم شخصياته انقادت باستسلام إلى حتفها، وتعتبر مظاهرات 1984 هي الحدث الذي تناسلت من خلاله تفريعات حكاية البشير الدامون، فالشخصية المحورية في الرواية “أسماء” ، حيث في محاولة لإنقاذ أخيها “حسن” الذي اعتقل إثر هذه المظاهرات ستتعرض للاستغلال من طرف قاضٍ زعم أنه سيساعد أخاها لتدخل في سلسلة من المطبات والانتكاسات النفسية مع توالي الأحداث، التي كشفت لنا عن قبح واقع لم تتغير ملامحه كثيرًا إلى يومنا هذا.

ولأن ولوج أي متن سردي لابد أن يكون مشروطًا بالمرور عبر العتبات النصية لاستنطاق النص ومكاشفته، لابأس في أن نتوقف قليلًا عند الغلاف باعتباره عنصرًا سيمولوجيًا دالًا ومشاركًا في بناء النص. يحتوي غلاف رواية “حكاية مغربية” على لوحة تضم سيدة متوسطة الجمال كئيبة الملامح تنام على ظهرها وتتوسد كفها، وفي ذلك رمزية للبطلة أسماء ولشرخها النفسي ووضعها غير المريح. بجانب السيدة الممددة نرى طاولة وُضِعت عليها مزهرية تشبه إلى حد كبير جسد أنثى تقف منتصبة بثقة في دلالة على أن السيدة الممددة أضعف وأكثر هشاشة من المزهرية. بجانب المزهرية وُضِعت كأس ماء نصف مملوءة في إشارة ربما إلى الزاوية التي ترى منها “أسماء” واقعها، هل هو النصف الفارغ أم المملوء من الكأس؟ أما اللون الطاغي على الغلاف فهو اللون الأحمر، وتكمن دلالته في دم البكارة التي فقدتها “أسماء”، فتغيَّرَ مجرى حياتها، وبهذا يكون الغلاف مؤشرُا دالًا على مضمون النص.

أما العنوان وباعتباره البوابة الرئيسية للدخول إلى عالم المتن وسبر أغواره، فهو عنوان ثنائي الدلالة، إذ يحيل على قراءتين: “حكايةٌ مغربيةٌ” أي حكاية تخص بلدًا بعينه وهو المغرب، و”حكايةُ مغربية” حكاية تخص سيدة مغربية، وفي اعتقادنا أن الدلالة التي تعكس أكثر مضمون المتن هي “حكايةٌ مغربيةٌ”، إذ يتضح جليًا أن الحكاية حكاية مجتمع بأكمله من خلال واقع ومصائر كل الشخصيات التي أثثت فضاءات النص.

بالرغم من أن بداية المتن كان فيها شيء من الارتباك ولم تكن قوية، إلا أن تواتر الأحداث سرعان ما يشد القارئ إلى واقع اجتماعي قاسٍ لم يسلم من وطأته معظم الشخصيات في الحكاية وعلى رأسهم الشخصية المحورية “أسماء”. إن هذه الأخيرة وقبل أن تتهاوى في بالوعة “رهاب الجنون”، كانت على وعي تامٍ بأن المنظور العام للعفة في مجتمعاتنا العربية يتمثل في المحافظة على غشاء البكارة “لم يتمزق الفستان. تمزق ما هو أثمن بكثير من التبان والفستان” ص 11. “أتذكر الدم الذي سال مني فأعتبر نفسي أنني ضعت. خسارة البكارة وقصص البنات الخاسرات لها في حينا مرعبة” ص 13.

من هذا المنطلق يدحرج الدامون بطلته نحو سلسلة من التصدعات النفسية بشفافية وحرفية عالية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “سأشنق نفسي. نفس محطمة لا شيء يمنعها من أن تتجبر في تحطيم نفسها” ص 13. “أنغلق على نفسي. أزداد انغلاقا، أفتح باب الانطواء على مصراعيه وأغلقه علي، يترعرع داخلي وسواس قهري يعلمني بأنني حتما سأجن. أهرب من ضغط وساوسي محاولة أن أقنعها بأنني فعلت ما فعلت للتخفيف عن أخي من حكم قاس” ص 21. “عنت لي فكرة معذبة تدفعني إلى الصراخ والتعري. شملني خوف من أن أشرع  في الصراخ وأعري نفسي. وجدت نفسي على خطى الجنون” ص 27. “لا أستطيع أن أمحو من عقلي أنني قاربت على الجنون” ص 33. “الخوف من الجنون يلاحقني في يقظتي وأحلامي، أنام على رهابه ويلاحقني عند استيقاظي. هلوسات جنون تزاحم ذهني. أفكار سوداوية لا إرادية. صوت خفي يهمس لي بأنني أطللت على الجنون” ص 36. “أرى نفسي جسدًا مثقوبًا وعقلًا في طريقه إلى أن يثقب” ص 37.

ظلت هذه الظاهرة النفسية عصبًا نابضًا على طول الخط السردي للرواية إذ قام الدامون بتشريح دقيق لنفسية المرأة التي فقدت بكارتها في مجتمعاتنا العربية بقدرة رهيبة على فهم هذه الذات التي تشظت بتشظي غشاءها، وهذا ليس بغريب على كاتب كالبشير الدامون الذي يتضح من خلال تجربته الإبداعية أن له قدرة رهيبة على الإحاطة بعالم المرأة والتعبير بدقة وشفافية على دواخلها.

إن اختيار الدامون اسم “أسماء” لبطلة حكايته لم يكن اعتباطيًا في اعتقادنا، وإنما لهذا الاسم رمزية كبيرة. فهذه  الحكاية لا تخص “أسماء” وحدها، وإنما هي حكاية أسماء كثيرة صمتت  في مجتمعات وكُمِّمَت أفواهها طويلًا.

ومع أن عفن الواقع كان مهيمنًا على طول الخط السردي للرواية، إلا أن النهاية جاءت بشيء من الإشراق. فرمزية الشعر كانت قوية لأن النفس البشرية تحتاج دائمًا لتذوق الإبداع، إذ جاء على لسان البطلة في الصفحة 154: “خلال دراستي تعودت على دراسة ما يتلى علي من مواد دراسية ومنها الشعر، لكني لم أتعلم كيف أتذوقه”، “شرعت تقرأ علي قصائد بصوتها الهامس الدافئ ﴿…﴾ كلام به نوع من السحر يوازي مفعول العقاقير التي يقدمها لي الطبيب حين يستبد بي القلق”. وبهذا المعنى فإن الشعر خصوصًا والإبداع عمومًا شكَّلَ مكونًا من المكونات التي تحتاجها الذات الإنسانية للتعافي من أزماتها النفسية.

في نهاية متنه الروائي لم يقدم لنا الدامون الشعر وحده كبارقة أمل لخروج “أسماء” من أزمتها النفسية، وإنما جاء البوح أيضا نوع من أنواع التعافي، فمن خلال عبارة: “احكي حكايتك إنها جديرة بأن تسمع” حاول الدامون مد يد العون لكل إنسان يشبه “أسماء” بأن يحكي حكايته ويتصالح مع تلك الظلال والأماكن القاتمة في اللاوعي وإعادة التكامل مع نفسه كما تقول نظرية كارل يونغ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى