مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم (5) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله – :” إن إنسانية الأنبياءِ وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
قصة يعقوب عليه السلام
كان أَيُّوب -عليه السلام- مِمَّنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وصنوف الشقاء، وَمَا كَانَ أحد أَكْثَر بَلَاءً وَمِحْنَةً مِنْه. ولهذا وصفه الله عز وجل بالعبودية فقال: {وَاذْكُر ‌عَبدنَا ‌أَيُّوب}، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الْبُخَارِيُّ-؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بقوله: ” الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيم يُوسُف بن ‌يَعْقُوب بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ ” .
لا تعتبنّ على النّوائب
فالدّهر يرغم كلّ عاتب
واصبر على حدثانه
إن الأمور لها عواقب
ولكلّ صافية قذى
ولكلّ خالصة شوائب
كم فرجة مطوية
لك بين أثناء النّوائب
ومسرّة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب
وفي وصفه لأيوب ب {عبدنا}، وصفٌ له بِكَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ، وَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ العلية بِصِيغَةِ الْجَمْعِ”نا” الدَّالَّةِ عَلَى نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ والتشريف، ومثله تشريفه وتعظيمه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ قَالَ: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 1] فَهَهُنَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّشْرِيفِ لأيوب فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عُلُوِّ دَرَجَتِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ بِعُبُودِيَّتِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَقَّقُوا مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ “.
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله “بتصرف” :” الله جل جلاله؛ له عبيد وله عباد، فالعبيدُ لا يستطيعون الخروج عن مشيئته أو إرادته. والعباد هم الذين اتحدت مراداتهم مع ما يريده الله سبحانه وتعالى، فأطاعوه باختيارهم، فتساووا بذلك مع العبيد في اختيارهم منهج الله.
ولذلك نعتهم الله بقوله:{ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً } [الإسراء: 5] وبعض الذين يطعنون في القرآن الكريم، يقولون أن كلمة “عباد” جاءت في وصف غير المؤمن في قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17]، نقول: إن هذا يوم الحساب ، وفي الآخرة كلنا عباد مقهورون لله “. اه
وعن سعيد بن المسيب، قال: فقبره-إبراهيم عليه السلام- وقبر وَلَده إِسْحَق وَقَبْرُ وَلَدِ وَلَدِهِ ‌يَعْقُوبَ فِي الْمَرْبَعَةِ الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَلَدِ حَبْرُونَ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلِيلِ الْيَوْمَ.
قال الإمام ابن كثير:” وَهَذَا مُتَلَقًّى بِالتَّوَاتُرِ؛ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، مِنْ زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا، أَنَّ قَبْرَهُ بِالْمَرْبَعَةِ تَحْقِيقًا”.
ولَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: ” يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ”
ومع هذا التكريم، وهذا التعظيم لنبي الله يعقوب عليه السلام، فإنك تجدُ بعض من زاغ قلبه يضع القصص محاولة منه النيل من عصمته وشرفه وفخاره!
قال تَعَالَى {وَاذْكُر ‌عَبدنَا ‌أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب}. قال الماوردي:” وفيها وجهان: أحدهما: أن مس الشيطان وسوسته وتذكيره بما كان فيه من نعمة وما صار إليه من محنة، الثاني: الشيطانُ استأذن الله تعالى أن يسلطه على ماله فسلطه، ثم أهله وداره فسلطه، ثم جسده فسلطه، ثم على قلبه فلم يسلطه ، قال ابن عباس فهو قوله: {مسني الشيطان}.وقوله : {بنصب وعذاب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بالنصب الألم وبالعذاب السقم. الثاني: النصب في جسده، والعذاب في ماله. الثالث: أن النصب العناء، والعذاب البلاء .
وذكروا أنَّ سَبَب ابتلائه -عَلَيْهِ السَّلَام- أَنه شوى لحماً فِي منزله، وَكَانَ له جَار فَقير، فبلغته رائحة الشواء وَلم يُنله مِنْهُ شَيْئا”. زعموا ذلك معتمدين في زَعمهم على قصص غير ثابتة، وإسرائيليات واهية؛ همها الطعن في أنبياء الله والنيل من عصمتهم. ونحن لو سلمنا جدلاً بصحتها لما كان يعقوب -عليه السلام- ظنيناً متَّهماً، إذ إن القصة-لو صحت- تحتمل وجوها يقبل العقل الصحيح تصديقها، فأول شيء ينبغي معرفته؛ أن مواساة الجار مندوبا إليها، ولم يقل أحد من العلماء أنها واجبة. وقد يكون يعقوب -عليه السلام- غلب على ظنه أن جاره ليس محتاجا لتلك المواساة، وقد يكون نسي أو غفل عن ذلك، وهذا لا يُستبعد وقوعه.
وإذا كان طرفة ابن العبد-قبل الإسلام- أحد شعراء المعلقات يفتخر بنفسه فيقول:
نحنُ في المشتاةِ ندعو ‌الجَفَلى … لا ترى الآدبَ فينا ينتقِر
الجفلى: العامة، والنقرى: الخاصة، والآدب: صاحب المأدبة. أي؛ يَعُمُّ بدعوته ولا يخص، فمن باب أولى أن يتصف بهذه الخلال من قال الله فيه: { نِعْمَ ‌الْعَبْدُ ‌إِنَّهُ ‌أَوَّابٌ}. [ص: 44]، قال قتادة: كان مطيعًا لله كثير الصلاة.
وقالوا ويا بئس ما قالوا : “كيف لنبي من أنبياء الله أن يؤثر يوسف بمحبته دون إخوته !؟ مع ما يترتب على ذلك من بغض وشنآن وتدابر وتقاطع بين الإخوة. والجواب: إن الميل والحب الطَبْعي قَسَمٌ من الله لا يُلام الإنسان عليه؛ لإنه خارج عن إرادته، وليس في مقدوره.
وقد نسلم جدلاً بأن يعقوب عليه السلام آثر يوسف بالعطاء، فلعله فعل ذلك لمَّا رأى من أخلاق أبنائه وجميل سلوكهم ما حمله على أن يظن بهم خيرا، وأن فعله ذلك لا يفضي بالضرورة إلى صنع ما صنعوا من خسيس الأعمال بأخيهم.
وقالوا: كيف لأبناء نبي أن يصفوا أباهم بالضلال؟! حين قالوا: {‌إن ‌أبانا ‌لفي ‌ضلال ‌مبين}، والجواب: أن فيها ثلاثة أوجه-كما حكاها الماوردي-: أحدها: لفي خطأ من رأيه. الثاني: لفي جور من فعله. الثالث: لفي محبة ظاهرة. أَي؛ فِي حب مُبين ليوسف وَكَذَلِكَ قَوْلهم لَهُ بعد ذَلِك {تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم}، أَي فِي حبك الْقَدِيم لَهُ، وَمن أَسمَاء الْمحبَّة عِنْد الْعَرَب الضلال.
وإنما جعلوه كذلك لثلاث: أحدها: لأنه فضّل الصغير على الكبير. الثاني: القليل على الكثير. الثالث: من لا يراعي ما له على من يراعيه. واختُلف فيهم هل كانوا حينئذ بالغين؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا بالغين مؤمنين ولكن لم يكونوا أنبياء بعد لأنهم قالوا {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}، وهذه حالة لا تكون إلا من بالغ، وقال آخرون: بل كانوا غير بالغين لأنهم قالوا {أرسله معنا غداً نرتع ونلعب}. وإنما استغفروه بعد البلوغ.
يُقال: رَتَعَتِ الماشيَةُ تَرْتَعُ رُتوعاً، أي أكلت ما شاءت. وخرجنا ‌نَرْتَعُ ‌ونلعب، أي ننعم ونلهو، وإبلٌ رِتاعٌ: جمعُ راتِعٍ، وقومٌ راتِعونَ. والموضعُ مَرْتَع. وأَرْتَعَ إبلَه فَرَتَعَتْ، وقومٌ مُرْتِعونَ. وأَرْتَعَ الغيثُ، أي أنبت ما تَرْتَعُ فيه الإبل. قالوا: يلعب فيما يحل ويسع من نحو الاستباق وغيره، وهو ما ذكروا: {إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا}، واللعب في مثل هذا يحل.
وقالوا: كيف له -عليه السلام- أن يرسل يوسف مع إخوته مع تخوفه عليه منهم، وقول الله على لسانه:” {وأخاف ‌أن ‌يأكله ‌الذئب وأنتم عنه غافلون}. وفيها قولان: أحدهما: أنه قال ذلك لخوفه منهم عليه ، وأنه أرادهم بالذئب ، وخوفه إنما كان من قتلهم له فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم قال ابن عباس فسماهم ذئاباً. والقول الثاني: ما خافهم عليه، ولو خافهم ما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب لأنه أغلب ما يخاف منه من الصحاري.
وقد يقال: أن يعقوب عليه السلام لما رأى من بنيه من الاجتهاد في طمأنته على يوسف، وقَسمهم على ذلك الأيمان المغلظة، وقطعهم على أنفسهم المواثيق والعهود في حفظ يوسف؛ ترجح عنده صدقهم، ومن جهة أخرى لو أنه استنكف عن إرساله معهم مع حرصهم ومبالغتهم على ذلك لاعتقدوا أنه يتهمهم في يوسف -عليه السلام- ، وقد يفضي ذلك إلى بغضهم له والكيد لإيذائه.
واعترضوا على حزنه وبكائه وإسرافه فيهما حتى قال الله عز وجل فيه: {‌وَابْيَضَّتْ ‌عَيْنَاهُ ‌مِنَ ‌الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، قال الماوردي: فيه قولان: أحدهما: أنه ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه. قال الإمام الرازي:” وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحُزْنِ فِي غَلَبَةِ الْبُكَاءِ لَا فِي حُصُولِ الْعَمَى؛ فَلَوْ حَمَلْنَا الِابْيِضَاضَ عَلَى غَلَبَةِ الْبُكَاءِ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ حَسَنًا، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَمَى لَمْ يَحْسُنْ هَذَا التَّعْلِيلُ، وهو مرويٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
الثاني: أنه ذهب بصره. قَالَ مُقَاتِلٌ بن سليمان (ت ١٥٠هـ) : لَمْ يُبْصِرْ بِهِمَا سِتَّ سِنِينَ حَتَّى كَشَفَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَمِيصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}. [يُوسُفَ: 93].اه
ويحكى عن رابعة العدوية أنها رجلا يَقُول واحزناه فَقَالَتْ قُل وا قِلَّة حزناه؛ لو كنت محزونا لَمْ يتهيأ لَك أَن تتنفس. وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة:” لو أَن محزونا بكى فِي أمة لرحم اللَّه تَعَالَى تلك الأمة ببكائه”. وَكَانَ دَاوُد الطائي الغالب عَلَيْهِ الحزن، وَكَانَ يَقُول بالليل: إلهي همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين الرقاد”.
ونرجع إلى زعم المبطلين.
قالوا: هذا ليس من شيم الأنبياء، وإنما أخلاقهم التجلد في النائبات، والصبر في المصائب والحادثات!
والجواب سهل ميسور، إذ أن ذلك مندوب، وترك المندوب ليس بمعصية، كما أن الحزن أمر طَبعِيٌّ في النفوس، وهو نسبي فيها.
قال الإمام الرازي في تفسيره (19/497):” وَأَما الْبُكَاءُ فَلَيْسَ مِنَ الْمَعاصِي. وَرُوِيَ عن النَّبِي عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنه بَكَى عَلَى وَلَدِه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: ” تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ “صحيح البخاري(2/83). وَأَيْضًا فَاسْتِيلَاءُ الْحُزْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا التَّأَوُّهُ وَإِرْسَالُ الْبُكَاءِ فَقَدْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ”.
وقالوا: إذا كان يعقوب عليه السلام- يعلم من رؤيا يوسف – أن أمره يفضي إلى ما أفضى إليه من نصر مبين، وعاقبة ‌حسنة في الدنيا والدين، فلمَ لم يتسل بذلك كله عن حزنه؟!
حق لهذا الوجه أن يزدهي                                                                ‌عن ‌حزنه من كان محزونا
والجواب: أن يوسف حينما رأى رؤياه كان طفلًا صغيرًا، فلا جرم أنه عليه السلام لم يقطع بتحققها، ولو قطع- فإن ذلك لا يقوى على دفع الحزن بسبب الفراق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. احترامي ان الله امر الملائكة بالسجود لادم ليؤكد خلافته في الارض بين اهله وعشيرته وهذا يؤكد طاعة ولاة الامور وارباب العمل والمعرفة والوالدين والاكبرين لما في من خلاف ذلك شقاق وفوضى وعلى الله حسابهم ان اخطؤوا ولسنا نحن والرسل والانبياء والعارفون والراسخون في العلم اولى ان يطاعوا بكل ما جاؤوا به وهي عصمة من الله منحهم اياها على الارض ليطاعوا ويعمل الناس بها بالتنزيه المطلق .كلامك جميل وموضوع رائع يفتح ابواب الرحمة والسلام على القلوب مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك ولمواضيعك المهمة التي تضيء على جوانب خفية على الناس لبلاغة ما جاء في القران من الله .تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى