مقالات

وقفات مع المتنبي وشعره (6) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

ورد قول أبي الطيب المتنبي في

 ” الصبح المُنْبي” 1/43 :

‌ ما ‌مُقامي ‌بأرضِ نَخلَةَ إلا

كمقام المسيح بين اليَهودِ

و-(ونخلة)- قرية قرب (بعلبَكَّ). يقول: إن أهل هذه القرية أعداء لي، كعداوة اليهود للمسيح -عليه السلام- .
وما ذكره ليس بمستهجن؛ إذ لا يخلو ناجحٌ عن الحسد، والحسد في الناس قديم. قال ابن المقفع:” فإن ‌الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل-ملازم- بالأدنى، فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والمعارف، والخلطاء، والإخوان”.
قال العَزْرَمِيُّ:
‌حسدوا ‌الْفَتى ‌إِذْ لم ينالوا شأوه

فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم

كضرائر الْحَسْنَاء قُلْنَ لوجهها

حسداً وبغياً إِنَّه لذميم

جمع الضرة على الضرائر، والحرة على الْحَرَائِر؛ وَهُوَ -في اللغة- جمع قَلِيل.
وكَانَ يحيى بن معِين إِذا ذكر لَهُ من يتَكَلَّم فِي أبي حنيفَة يُنشدُ البيتين.
قال أقضى القضاة الإمام -الماوردي- “اعْلَمْ أَنَّ كِتْمَانَ الْأَسْرَارِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاحِ، وَأَدْوَمِ أَحْوال الصَّلَاحِ. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَعِينُوا عَلَى الْحَاجَاتِ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ ‌كُلَّ ‌ذِي ‌نِعْمَةٍ ‌مَحْسُودٌ».صحيح.. قال الإمام الكيا هراسي في:” قوله تعالى: (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ). وذلك يدل على جواز ترك إظهار النعمة، عند من يخشى غائلته حسدا وكيدا . وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ إلَّا وَجَدَ لَهَا حَاسِدًا، فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَقْوَمَ مِنْ الْقَدْحِ لَمَا عَدِمَ غَامِزًا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

إنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لَائِمِهِمْ

قَبْلِي مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا

فَدَامَ لِي وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا بِهِمُ

وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ

وَرُبَّمَا كَانَ الْحَسَدُ مُنَبِّهًا عَلَى فَضْلِ الْمَحْسُودِ وَنَقْصِ الْحَسُودِ، كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ:

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ

طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ

لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ

مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ

وقال المنصور للمهلّبي: ما أسرع حسد الناس إلى قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:

إنّ العرانين تلقاها محسّدة

ولا ترى للئام الناس حسّادا

‌والعرانين: الأنوف .
عن وكيع قال : دخلت عَلَى أَبِي حنيفة، فرأيته مطرقًا مفكرًا، فَقَالَ لي: من أَيْنَ أقبلت، من عند شريك؟ ورفع رأسه وأنشأ يَقُولُ
‌إن ‌يحسدوني ‌فإني ‌غير ‌لائمهم

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

قَالَ وكيع: وأظنه كَانَ بلغه عَنْهُ شيء. والضمير في ” يحسدوني ” لطائفةٍ من الناس خصهم بالإخبار عنهم، وقصدهم بالكلام. فيقول: إن نافسوني وحسدوني، ورمقوا النعمة علي بعين التسخط؛ فإني لا ألومهم ولا أعتب عليهم، إذ كان التنافس والحسد يتبعان الفضل، وإذ كان من قبلنا اعتاد بعضهم من بعضٍ مثل ما نراه بسبب الفضل.
قَالَ “أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ” : “إِنِّي ‌لَأَتْرُكُ ‌لُبْسَ ‌الثَّوْبِ ‌الْجَدِيدِ؛ ‌خَشْيَةَ ‌أَنْ ‌يَحْدُثَ ‌فِي ‌جِيرَانِي ‌حَسَدٌ” . وَقَالَ آخَرُ: “خَشْيَةَ أَنْ يَقُولَ إِخْوَانِي مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا”. وقال بعض الزاهدين: ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين، هذا وحدثونا عن إبراهيم التيمي أنّه رأى صاحباً له عليه قميص جديد فقال: من أين للك هذا؟ قال: كسانيه أخي خيثمة؛ ولو علمت أنّ أهله علموا به ما قبلته.
ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فردّه ودفع إليه آخر شيئاً في السرّ فقبله، فقيل له في ذلك فقال: إنّ هذا أخفى معروفه وعمل بالأدب في معاملته فقبلنا عمله، والذي أظهر معروفه أساء في الأدب في المعاملة فرددنا عمله عليه.
وُقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يَا رَبِّ اقْطَعْ عَنِّي أَلْسُنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَا مُوسَى لَمْ أَقْطَعْهَا عَنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أَقْطَعُهَا عَنْكَ؟» قَالَ أَبُو عُمَرَ: ” وَاللَّهِ لَقَدْ تَجَاوَزَ النَّاسُ الْحَدَّ فِي الْغِيبَةِ وَالذَّمِّ فَلَمْ يَقْنَعُوا بِذَمِّ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَلَا بِذَمِّ الْجُهَّالِ دُونَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ وَالْحَسَدُ.

حول مقولة “ادعاء النبوة “

لعل مقولة “ادعاء النبوة” في حياة أبي الطيب هي الأبرز، وحسبك انها نبزَ بها وما زال! وقد اختلف النقاد فيها اختلافًا كبيرًا، وذلك بسبب الروايات التي لفقت في ذلك، والناظر البصير الذي شدا شيئا من علم مصطلح الحديث، وفن قبول الرواية ورده لا يتردد لحظة واحدة في اكتشاف ضعفها والتوائها ووهنها، ويجزم بما لا يدع مجالا للشك أنه أمرٌ دبر بليل.
وانا هنا لن أتجشم إيراد الروايات والنصوص التي ذكرت ذلك، فثم من قام بهذا الجهد وأراحنا من ذلك العناء، وحسبي من كل ذلك ان آتي بشهادة رجل اتفق على توثيقه وعلمه، وهو من المتنبي بمكان؛ التلميذ المقرب والصاحب المجرب، ليشهد بما رأى وما سمع ببضع كلمات، وكأنه يريد ان يقول لك أن الأمر برمته لا يستحق اكثر من ذلك. إنه الإمام الجليل، وفيلسوف النحو والعربية “ابن جني”.
قال : سمعت أبا الطيب يقول: إنما لُقبت بالمتنبي لقولي:
‌ما ‌مقامي ‌بأرض ‌نخلة إلاّ

كمقام المسيح بين اليهود

أنا في أمّةٍ، تداركها اللّه

 غريبٌ كصالحٍ في ثمود

بمثل هذه الأبيات؛ وما اتصل بها من كلمات في النثر دُسَّت عليه، – قيل: إنه حاكى بها القرآن- اتهم بهذه الفرية، والحق: أنه لم يتنبأ؛ وإنما لقبوه بالمتنبي لتشبهه بالأنبياء في هذين البيتين، وربما لقب بذلك لفطنته في الشعر ونبوغه، ولما رأوه منه من زهو ،وفخر ،وافراط في الاعتداد بالنفس؛ فهو -في ظنهم- يستعلي على الناس ويزدريهم. ومن العجب أن بعض الأفاضل من العلماء أمثال السَقّاف”، صاحب العود الهندي ” أمثال الأستاذ النحوي سعيد الأفغاني -من المعاصرين- ، صدقوا قالة السوء هذه وراجت عليهم.
ومن العجيب أن الأفغاني؛ -وهو من أشد المؤمنين بفرية “نبوة المتنبي” افتتح كلامه بقوله:” بهذا الحذر أخوض الكلام في اعتقاد المتنبي مع علمي بأنه لم ينظم شيئاً يبين فكرته في الدين خاصة..”اه
ومفهوم الحسد في شعر المتنبي يحتل مكانة بارزة، فعلى قدر مكانة المتنبي، ومكانة ممدوحيه تجد احتفال المتنبي بذكره، وذكر أسبابه !
أنظر إليه وهو يذكر فضائل نفسه، ومفاخر شخصه، فيقول: أنا قرين السخاء، وربُّ الشعر والقوافي، وسمٌّ زُعاف لأعدائي، وغيظ مِضِّ لحسادي، لدرجتي العالية، ولكمال فضلي.
‌أنا ‌تِربُ ‌النّدى وَربُّ القوافي

وسَمامُ العدى وغيظُ الحَسُودِ

ولطالما لهج المتنبي بذكر الحسد، والحساد، يشكو منهم، ويشكوهم لممدوحيه. قال:
‌‌فاغتظ بقوم وهسوذ ما خلقوا

إلا ‌لغيظ ‌العدو ‌والحاسدْ

وهسوذ: ترخيم وهسوذان. يقول: كن أبدا مغتاظا بقوم لم يخلقوا إلا غيظا للأعداء والحساد.
وانظر إليه كيف يصف نظرات حساده إليه، وكيف جعلت نهاره طويلا:
‌وما ‌ليلٌ ‌بأطول ‌من ‌نهارٍ … يظل بلحظ حسادي مشوبا
واستمع إليه وهو يخاطب سف الدولة بقوله:
فَأبْلِغْ ‌حَاسِديَّ ‌عَلَيْكَ أني … كَبَا بَرْقُ يُحَاوِلُ بي لِحَاقَا
يقول: أبلغ من يحسدني عليك، أني الذي لا يدرك، والمتقدم الذي لا يلحق، وأن البرق لو سابقني لكبا وقصر، وعجز وتأخر.
والحسد-عند بعضهم- أوّل ‌ذنب، وأعظم جرم؛ كان من ابليس، حين حسد أبانا آدم عليه السلام لمكانته من الرحيم الرحمن، وبه لجّ اللعين في الطّغيان، وأمعن في الكفر والعصيان، وتمرد على أمر الله في السجود والإذعان. قال الإمام الغزالي في الإحياء (3/188) : ” قال بعض السلف: أول خطيئة؛ هِيَ ‌الْحَسَدُ؛ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رُتْبَتِهِ، فَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ فَحَمَلَهُ على ‌الحسد والمعصية”. قال تعالى: {‌وَدَّ ‌كَثِيرٌ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ حُيي بْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ أَشَدِّ يهودٍ لِلْعَرَبِ حَسَدًا، إذْ خَصَّهم اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَا جاهدَيْن في رَدِّ الناس بِمَا اسْتَطَاعَا.
وقال تعالى في معرض الإنكار : {‌أَمْ ‌يَحْسُدُونَ ‌النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]. قال مجاهد «وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ، الْيَهُوَدُ، حَسَدُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وإذا كان النجاح في الرجال مما يؤرث الحسد والحقد والضغينة في قلوب حساده، فإن الجمال في المرأة يفعل أكثر من ذلك.
قال قيس :
‌مَوْسُومَةٌ ‌بِالْحُسْنِ ذَاتُ حَوَاسِدِ

إِنَّ الْحِسَانَ مَظَنَّةٌ لِلْحُسَّدِ

جعل سيماها الحسن، فهي به موسومة. وأصل السمة العلامة. وذات حواسد، أي من يراها من الناس يحسدها، لأن الحسان معلم للحسد. وهكذا كما يقال: إن الحسد يتبع النعم.
وقالت أم رومان لعائشة -كما في الصحيح (٢٥١٨) -:” يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ، عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ‌ضَرَائِرُ، إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا”.
الوَضَاءَة: الحُسْنُ والبَهْجةُ. يُقَالُ وَضُؤَتْ، فَهِيَ ‌وَضِيئةٌ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِحَفْصةَ: لَا يَغُرّكِ أَن كانَتْ جارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ .
وقد شنَّ الغارةَ أقوامٌ على أبي الطيب لشعره الذي شبه فيه نفسه بالمسيح في اليهود، وبصالح في ثمود، وقد غلطوا في ذلك، فالتشبيه-كما يقول العلماء- لا يلزم من كل وجه، والمشبه لا يكون مثل المشبه به في سائر الوجوه، والقرآن، والسنة، والشعر فيه كثير من ذلك.
وفي صحيح البخاري (٥١٨٩) :” قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ لَكِ ‌كَأَبِي ‌زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ.” ومعلوم؛ انه حمده فِي الْأُلْفَةِ وَالْوَفَاءِ، ولم يحمده فِي الْفُرْقَةِ وَالْجَلَاءِ”.
وقد يذكر تفريعا على هذا ما ذكره الرافعي في شرحه الكبير على كتاب “الوجيز” (11/105)، قولهُ :” وذكروا أنه لو قال معلم الصبيان: ‌اليهود ‌خيرٌ ‌من ‌المسلمين بكثير؛ لأنهم يَقْضُون حقوق معلِّمي صبيانهم، يَكْفر”.
قال الإمام الحِصْني -كفاية الأخيار- (ص494):” وَهَذَا اللَّفْظ كثير الْوُقُوع من الصنائعية والمتعيشة، وَفِي التَّكْفِير بذلك نظر ظَاهر، إِذْ إِخْرَاج مُسلم عَن دينه بِلَفْظَة لَهَا محمل صَحِيح لَا سِيمَا عِنْد الْقَرِينَة الدَّالَّة على أَن المُرَاد أَن مُعَاملَة هَذَا أَجود من مُعَاملَة هَذَا؛ لَا سِيمَا إِذا صرح بِأَن هَذَا مُرَاده فِي لفظ صَرِيح كالمسألة المنقولة وَالله أعلم”.
ومما يتصل بهذا قصة القاضي عبد الوهاب لما نبا به بلده “العراق” فخرج منها يريد الفراق، فشيّعه أكابرها، وأصحاب محابرها ؛ فقال لهم: والله لو وجدت بين أظهركم رغيفين كلّ يوم، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. والخبز عندهم يومئذ ثلاثمائة رطل بدينار. فقال:
‌بغدادُ ‌دارٌ ‌لأهلِ المالِ واسعةٌ … وللمفاليسِ دارُ الضَّنْكِ والضِّيقِ
ظَلِلْتُ حيران أمشي في أزِقَّتِها … كأنَّني مُصْحفٌ في بيتِ زِنْدِيقِ
وما أقسى أن يُضيّعَ العالم أهله، فيضيع علمُه، وينكسف فكرُه، ويذهب إبداعُه.
وهي من الشعر الذي يروق العيون، ويفوق المنثور والموزون.
والشاهد هنا تشبيهه إياها بدار الزنديق؛ مع من فيها من الصالحين، والعلماء والأدباء.
ثم ما لبث شاعرنا الوفي أن تذكرها ففاضت عيناه وغناها بأجمل الأشعار:
سلام على بغداد منّي تحيّة

وحقّ لها مني السّلام المضاعف

لعمرك ما فارقتها قاليا لها

وإني بشطّي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت عليّ برحبها

ولم تكن الأقدار ممّن يساعف

فكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه

وتأبى به أخلاقه فيخالف

ومن طريف ما يُروى :” أن القاضي عبدالوهاب وهو في طريقه إلى مصر مرّ على دمشق، فاجتاز في وجهته تلك بمعرة النعمان وبها يومئذ أبو العلاء أحمد بن سليمان فضيفه وقال فيه:
‌والمالكي ‌ابن ‌نصر زار في سفر

بلادنا فحمدنا النأي والسَّفرا

إذا تفقه أحيا مالكًا جدلًا

وينشر الملك الضليل إن شعرا

والملك الضليل هو امرؤ القيس، وكفى بها شهادة لشاعرية هذا الفقيه من أبي العلاء فيلسوف الشعراء.
وعندما تساءل المعري عن حكمة قطع اليد في ربع دينار مع أن ديتها خمس مئة دينار، فقال:
‌يدٌ ‌بخمس ‌مئين عسجدٍ وديت

ما بالها قطعت في ربع دينارِ

فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي:
عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها

ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري

يعني؛ أنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.
وقال غيره:

هناك مظلومةٌ غالت بقيمتها

وههُنا ظَلَمت هانَت على الباري

وأجاب شمس الدين الكردي بقوله:
قُلْ لِلْمَعَرِّيِّ عَارٌ أَيُّمَا عَارِ

‌جَهْلُ ‌الْفَتَى ‌وَهْوَ ‌عَنْ ‌ثَوْبِ التُّقَى عَارِ
لَا تَقْدَحَنَّ زِنَادَ الشِّعْرِ عَنْ حِكَمٍ

شَعَائِرُ الشَّرْعِ لَمْ تُقْدَحْ بِأَشْعَارِ

فَقِيمَةُ الْيَدِ نِصْفُ الْأَلْفِ مِنْ ذَهَبٍ

فَإِنْ تَعَدَّتْ فَلَا تَسْوَى بِدِينَارِ

وذكر ابن القيم-رحمه الله- في كتابه القيم “اعلام الموقعين” (2/48): فصلا بعنوان ” ‌‌[الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَدِ فِي الدِّيَةِ وَفِي السَّرِقَةِ]، فقال: “وَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَجَعْلُ دِيَتِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهُ احْتَاطَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَطْرَافِ، فَقَطَعَهَا فِي رُبُعِ دِينَارٍ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ دِيَتَهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ حِفْظًا لَهَا وَصِيَانَةً”.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫7 تعليقات

  1. مقال جميل ،غني بالمعلومات كالعادة
    سرد شيق وتدرج متناسق، يشعر القارئ بالاستمتاع أثناء القراءة .
    سلمت يمناك دكتور؛
    دمت بخير وعافيه❤️

  2. كلامٌ زَين يشحذُ الفطنةَ ويؤنسُ من الوَحشة.
    تمنّيت على الكاتب لو أنّه وازن بين دعوى النّبوّة ونفيهاكي تتمّ الفائدة، لكنَّ عينَُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ.

    و”لولا الحِكَمُ المحفوظةُ والكتبُُ المدوَّنة لبطُلَ أكثرُ العلم ولغلبَ سلطانُ النّسيان سلطانَ الذِّكر ولما كان للنّاسِ مفزَعٌ إلى موضعِ استذكار”.
    بوركتم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى