مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم  (7) د أحمد الزبيدي    –     الإمارات

د. أحمد الزبيدي

“قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله – :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر في ما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).”

قصة شعيب عليه السلام

ذكر الله-سبحانه- قصة ‌شعيب -عليه السلام- مع قومه؛ وكانوا أهل بخس للناس في مكاييلهم، مع كفرهم بالله وتكذيبهم نبيهم، وكان يدعوهم إلى الله، وعبادته، وترك ظلم الناس وبخسهم في موازينهم، فقال ناصحاً لهم: {ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود: 88] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبًا، قال: «ذاك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه فيما يراد بهم، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم،-مدين- وعتوا على الله، أخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم.
وقد ذكرها كثير-مدين- في شعره فقال:
اللهُ يَعْلَمُ لَوْ أَرَدْتُ زِيَادَةً
في حُبِّ عَزَّةَ ما وجدْتُ مَزِيدَا
‌رُهْبَانُ ‌مَدْيَنَ ‌وَالَّذِينَ ‌عَهِدْتُهُمْ
يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها
خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا
وقد طعنوا في شعيب عليه السلام في شبهات ثلاث:
الأولى: قوله تعالى على لسانه: {‌واستغفروا ‌ربكم ‌ثم ‌توبوا ‌إليه} [هود: 90]. قالوا: معلومٌ أنَّ ‌الشيء ‌لا ‌يُعْطف ‌على ‌نفسه، وإنما يعطف على غيره، لاسيما بحرف “ثم” الذي يقتضي التراخي، وجوابه من وجوه:
الأول: الظاهرُ في اللغة أن ‌الشيء ‌لا ‌يُعطَف ‌على ‌نفسه؛ وهو أصل مطّرد، فإن وُجد في الكلام ما يخرج عنه، وأُصيب ما يخالف هذه القضية فزائل عن الظاهر تابع لدليله؛ كما يوجد عموم يُخَصّ، وأمر يحمل على النّدْب، وخبرٌ يراد به الأمر.
فإذا قلنا: دخل محمدٌ ومحمد، فإننا نفهم من الكلام أن الداخل رجلان؛ لأنه من غير المنطق أن تقول: محمد، ومحمد، وهو نفسه، فليس هذا من كلام من كلام العقلاء، لذلك قالوا : اللغة العربية حكيمة، وذكية، لكن إذا قلت: دخل محمد، وعلي فالتباين واضح.
واستدلَّ الشافعيُّ-رضي الله تعالى عنه-بقوله تعالى: {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ}.
وقد أخذوا على طه حسين مخالفته القاعدة في قوله : “لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم، ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد ولم يستشرني أولئك ولا هؤلاء هذا النص والذي اشتمل عليه الدستور والذي يعلن للدولة المصرية دينا رسميا هو الإسلام.. ولو استشارني أولئك أو هؤلاء لطلبت إليهم أن يتدبروا ويتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور!!!
فالواو هنا لا ضرورة لها، لأن ‌الشيء ‌لا ‌يعطف ‌على ‌نفسه. يقصدون الواو في ” والذي يعلن للدولة..”.
الثاني : فلعل المعنى أن يكون : اجعلوا المغفرة غرضكم الذي تتوجهون إليه، ثم توصلوا إليها بالتوبة، ‌فالمغفرة ‌أولٌ ‌في ‌الطلب وآخر في السبب. ‌فالمغفرة ‌أولٌ ‌في ‌الطلب وآخر في السبب. وقال الماوردي: ويحتمل معنى ثالثاً؛ أن المعنى استغفروه من الصغائر وتوبوا إليه من الكبائر.
الثالث: وهو أن التخلص من توابع الذنب بأمرين : مغفرته تعالى وعونه، والتوبة الماحية للذنب. فهو بهذا سَلَكَ السُّبل كُلها.
الشبهة الثانية: عابوا على شعيب تخييره لموسى عليه السلام في الصداق، غافلا في ذلك عن صداق البنت، ملاحظا فائدته هو! قال تعالى {قالَ إِنِّي أُرِيدُ ‌أَنْ ‌أُنْكِحَكَ ‌إِحْدَى ‌ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ}. والجواب من وجهين: الأول: فلعل الغنم كانت لشعيب عليه السلام، وكانت فائدة الرعي راجعة إليه، ومع هذا فقد عوض ابنته عن قيمة ذلك، فيكون ذلك رعيا أو بمثابة الرعي لها، وأما التخيير فلم يكن إلا في الزيادة على الحجج الثمانية ؛ وهو ليس من الصداق، ويمكن أن تكون الغنم لابنة شعيب عليه السلام وكان الأب وكيلها؛ وقابضا لمهرها.
قَالَ الشَّافِعِيُّ-الأم -(4/26) قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ آجَرَ نَفْسَهُ حِجَجًا مُسَمَّاةً مَلَّكَهُ بِهَا بِضْعَ امْرَأَةٍ، فَدَلَّ عَلَى تَجْوِيزِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا عَلَى الْحِجَجِ إنْ كَانَ عَلَى الْحِجَجِ اسْتَأْجَرَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى غَيْرِ حِجَجٍ فَهُوَ تَجْوِيزُ الْإِجَارَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَدْ قِيلَ: اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه :” بَاب: مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الْأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ” لِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أنكحك ‌إحدى ‌ابنتي هاتين – إلى قوله – عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} /القصص: 27 – 28/.
وقد استدل النحاة من هذه الآية على إضافة “إحدى” إلى العَلَم، والأصل أن تضاف إلى غير عَلَم، كقوله تعالى {‌لإِحْدَى ‌الْكُبَرِ} [المدثر: 35]. قال ابن قتيبة : جمع “كُبرى”. مثل الأولى والأوَلُ، والصُّغْرَى والصُّغَر. وهذا كما تقول: إنها لإحدى العظائم والعُظَم.
وقد طعنوا أيضا في قوله : {قال الملأ الذين استكبروا من قومه ‌لنخرجنك ‌يا ‌شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} قوله عز وجل: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجّانَا اللَّهُ مِنْهَا} فالعود إلى الشيء رجوع إليه بعد الخروج منه، فهل كان شعيب على ملة قومه من الكفر حتى يقول: {إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}. قال الإمام الماوردي: في الجواب عنه ثلاثة أوجه : أحدها: أن هذه حكاية عمن اتبع شعيباً من قومه الذين كانوا قبل أتباعه على ملة الكفر. الثاني: أنه قال ذلك على التوهم أنه لو كان عليها لم يعد إليها. والثالث: أنه يطلق ذكر العَود على المبتديء بالفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله سن قولهم: قد عاد عليّ من فلان مكروه وإن لم يسبقه بمثله كقول الشاعر:
لَئِن كَانَت الأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً
إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
أَتَى دَونَ حُلْوِ الْعَيْشِ شَيْءٌ أُمِرُّهُ
كُرُوبٌ عَلَى آثَارِهِنّ كُرُوبُ
وقد زاد الإمام الرازي وجها رابعاً: قال: ويجوز أن يكون شعيب قبل الوحي مكلفا بتلك الملة، ثم صارت منسوخة، فدعوه إليها مرة أخرى، فأجابهم شعيب عليه السلام بأنه ليس له أن يعود إليها بعد نسخها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى