د. أحمد الزبيدي
قال أبو الطيب المتنبي في “معجز أحمد” (ص 22)بحر “الكامل”:
أَرَقٌ على أَرَقٍ ومثليَ يأرَقُ
وأسى يزيدُ وعَبرةٌ تترَقْرَقُ
وفي رواية العُكبري: وجوى يزيدُ وعبرةٌ تترَقْرَقُ
(الجوى): ما يلحق العاشق؛ من جرح، وألم، وتعب؛ في النفس والحشا، ومعناهما متقارب.
و(الأرقُ): فقدُ النوم وامتناعه، قال الزّبيدي: أَرِقَ، كفَرِحَ يأرَقُ أرَقاً فَهُوَ أَرِقٌ؛ ككَتِفٍ .
قال الطاهر بن عاشور :”وَهَذَا مِنَ استعْمال التكرير باختلاف صيغَة في معْنى الْقوة والشدة.
ومما يذكرُ هنا أن بديع الزمان الهمذاني والخوارزمي اشترطا على نفسيهما محاكاةَ قصيدة أبي الطيب: “أرَقٌ على أرقٍ ومثلي يأرَقُ” في مناظرتهما في الأدب”.
و(العَبرةُ): تردد الدمع في العين. و(الترقرق) المجيء والذهاب.
يقول: لي سهاد بعد سهاد، ومن كان مثلي يَسْهدُ!
ولم يبين الناظم سبب هذا السّهاد، غير أن من قرأ ديوانَه، ودخل إيوانَه، وآمن إيمانه، وفهم مفتاح شخصيته وعنوانه، علمَ أن تراكب همه، وترادف غمه، سببهما ؛ علو الهمة، وهموم الأمة، وطموح النفس في طلب العلا، وتحقيق الغايات والمنى، ومصداق ذلك دوران هاته المعاني على لسانه، حتى لتستطيع أن تقول إنها المحور الأساس؛ الذي كانت تقوم عليه حياته بينه وبين الناس. قال رحمه الله:
لَحا اللهُ ذي الدُنيا مُناخاً لراكبٍ
فكلّ بعيدِ الهمِّ فيها معذَّبُ
يقول: لعن الله هذه الدنيا، التي لا يَنالُ فيها الشريف غايته، ولا يرفع فيها النبيلُ رايته، فهو فيها في تعب وكبد. وقال:
وأتعبُ خَلْقِ الله مَنْ زاد همُّه
وقصَّر عمّا تشتهي النفس وجدُه
وقال:
و إذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام
فلا بد لطالب المجد من سهر الليالي. (من طلب العلا سهر الليالي)، ومن قبله أرشدنا الشافعي لذلك. فقال:
بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي
وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى سَهَرَ اللَّيَالِي
وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ
أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمَحَالِ
حقاًّ؛ فإن طالب اللآلئ النفيسة، والجواهر الثمينة، يركب البحر ولا يخيفه الغرق والسفر .
وقال غيره:
إِذا هم ألْقى بَين عَيْنَيْهِ عزمه
وَأعْرض عَن ذكر العواقب جانبا
ومن مأثور الحكم ” اتخذ الليل جملًا تدرك به أملاً”.
وقال الشاعر في هذا المعنى:
مَنْ شَاءَ أن يحْتَويَ آمَالهُ جُمَلا
فَلْيَتَخِذ لَيلَه في دَرْكِهَا جَمَلا
أقْلِلْ طَعَامَكَ كَي تَحْظَى به سَهَرًا
إِنْ شِئْتَ يَا صَاحِبي أَنْ تَبْلُغَ الكَمَلا
وقد عاب بعض العُلماء على المتنبي ادعاءه ذلك، وزعموا أن حب المال والسلطة هما السبب في أرقه وسهره. واستشهدا عليه بهذا البيت:
فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ مالهُ
ولا مالَ في الدنيا لمن قلَّ مجدُهُ
والجواب: أن قوله هذا تقرير للواقع الذي كان يعيشه؛ وتصوير له، وهذه حقيقة لا مرية فيها، وهي؛ أن المجد مهما كان رفيعًا لا اعتبار له إلا بالمال، وقد أجمع الناس -بالفعل لا بالقول- على ذلك، فما يحترمون إلا صاحب المال ولو كان دنيئاً؟ ولكن لم يكتف بذلك حتى عقب بأن المال وحده لا اعتبار له عند العقلاء ولا بد مع ذلك من خصال المجد التي هي أساس الاعتبار؟
وقد أزال هذا الإشكال بالكلية في قوله:
وَمَا رغبتي فِي عسجد أستفيده
وَلكنهَا فِي مفخر أستجده
وزاد الأمر إيضاحا أكثر بقوله:
فسرت إِلَيْك فِي طلب الْمَعَالِي
وَسَار سواي فِي طلب المعاش
والمعالي عند المتنبي معروفة للمتنبي، قال :
وَلا تَحْسَبَنَّ المَجْدَ زِقاًّ وقَيْنَةً
وَمَا المَجْدُ إِلَّا السَّيفُ والفَتْكَةُ البِكْرُ
وقال:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ
فلا تقنع بما دون النجوم
يقول: إذا سعيت بنفسك تطلب شرفًا ، فاطلب عظيما، وحدث نفسك بأنك تنال النجوم .
وقال في شكره لمن وهب له هبة:
وما شكرتُ لأن المال فرحني
سيّان عندي إكثار وإقلال
لكن رأيت قبيحاً أن يُجادَ لنا
وإننا بقضاء الحق بُخَّال
ومطلعها ما يشير إلى صدقه، قال:
لا خيلَ عندَك تهديها ولا مالُ
فليُسعِدِ النُطقُ إن لم تُسعِدِ الحالُ
وأصله قول الأول:
يَجزيك أو يُثْني عليك وإنّ منْ
أثنى عليك بما فعلتَ كمن جزَى
وقد بالغ حتى جعل البخل من مبطلات الصلاة، وهذه لم بُسبَق إليها:
فتى لا يُرجِّى أن تَتَّم طهارةٌ
لمن لم يطهر راحتيه من البخل
فهذه الأبيات وغيرها كثير؛ مما يوضح مقصده ويبين غايته، وهي نص في المراد-كما يقول الفقهاء- فكيف يصح إغفالها والتمسك بمثل قوله في البيت الفائت:
فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ مالُهُ
ولا مالَ في الدنيا لمن قلَّ مجدُهُ!!
وهو في هذا ليس بدعًا من الشعراء، فقد قال هرم بن عمير التغلبيّ:
إنِّي امرؤٌ هدمَ الإقتارُ مأثُرتي
واجتاحَ ما بنَتِ الأيَّامُ من خَطَري
وقال الأحنف:
وإِنّ المُروءَةَ لا تُسْتَطاعُ
إذا لَمْ يَكُنْ مَالُها فَاضِلا
وفي “الصبح المنبي” (ص82) :” أنه قيل للمتنبي قد شاع عنك من البخل في الآفاق ما قد صار سمراً بين الرفاق، وأنت تمدح في شعرك الكرم وأهله، وتذم البخل وأهله، ألست أنت القائل:
ومن ينفقِ الساعات في جمعِ مِالهِ
مخافةَ فقْر فالذي فعلَ الفقُر
ومعلوم أن البخل قبيح، ومنك أقبح؛ لأنك تتعاطى كبر النفس، وعلو الهمة، وطلب الملك، والبخل ينافي سائر ذلك. فقال: إن لبخلي سبباً، وذلك أني أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت خمسة دراهم في جانب منديلي، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت عنده خمسة من البطيخ باكورة، فاستحسنتها ونويت أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ، فقال: بغير اكتراث: اذهب، فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: أيها الرجل دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال: ثمنها عشرة دراهم. فلشدة ما جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً؛ ودفعت له خمسة دراهم، فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان، ذاهبًا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه، ودعا له، وقال له: يا مولاي، هذا بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى منزلك. فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال: بخمسة دراهم. فقال: بل درهمين. فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره، ودعا له، وعاد إلى دكانه مسرورًا بما فعل، فقلت له: يا هذا، ما رأيت أعجب من جهلك، استمت عليَّ في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعته بدرهمين محمولًا. فقال: اسكت هذا يملك مائة ألف دينار، فعلمت أن الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار”.
قال الأستاذ عبد الله كنون:” وإننا لا ننفي أن المتنبي كان جمّاعة للمال، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا للاستعانة به على مقاصده؛ كما يصرح هو بذلك في شعره، لا سيما وهو يعلم من أحوال عصره أن الاعتبار كله إنما هو لأهل المال خاصة. وانظر إلى حكاية البطيخة التي أعطى صاحبها خمسة دراهم فلم يبعها له وباعها بدرهمين لمن يملك مائة ألف دينار لمجرد كونه يملك مائة ألف دينار! فانصرف وقد علم أنه لا يتم اعتبار الناس له إلا إذا جمع مائة ألف دينار؛ وقد كان كذلك، وكل ما صدر عنه في هذا الصدد إنما هو من قبيل القول: وكم بين من يطلب المال ليستعين به على قضاء حقوقه – وأي حقوق هي! إنها لتزري بحقوق الطغرائي التي يقول فيها:
أريد بسطة كف أستعين بها
على قضاء حقوق للعلا قِبلي
وبين من يطلبه لمجرد الحرص عليه وشهوته التي هي مرض من الأمراض، فإن هذا هو البخيل حقاً لا ذاك!
والواقع أننا وجدنا المتنبي صادقاً في كل ما وصف به نفسه من خلال المجد، فلا يصح أن يكذب في هذا الأمر لمجرد حكايات الله أعلم بحالها وحال من نحله إياه! كذلك وجدنا شعره طافحًا بمدح الكرم وذم البخل في أبيات صريحة لا غبار عليها فلا يجوز أن نغض الطرف عن ذلك ونلجأ إلى الفرض والتخمين محملين بعض ألفاظه ما لا دلالة لها عليه لنصحح تهمة أنه كان بخيلًا!
وإذا أردنا تلخيص قاله وقيله، وحاله وحيله، نلخصها بما قاله قبله الملك الضليل:
فَلَوْ أنّ ما أسعَى لأدْنى مَعِيشَةٍ
كَفاني، وَلمْ أطْلُبْ، قَلِيلٌ مِنَ المَالِ
وَلَكِنّمَا أسْعَى لِمَجْدٍ مُؤثَّلٍ
وَقد يُدرِكُ المَجدَ المُؤثّلَ أمثَالي
وقد عيب على أبي الطيب تكراره في الشطر الأول لكلمة: (أرق) ولا معابة فيه؛ لأنه أسلوب عربي معروف، جاء به القرآن والسنة، وتكلم به فصحاء الصحابة فلا نطيل بالاستشهاد له، ومن الشعراء المتأخرين؛ أمير الشعراء أحمد شوقي استخدمه في رثائه فوزي الغزي أحد أعلام دمشق:
جُرحٌ على جرح حَنانكِ جِلّقُ
حملتِ ما يوهي الجبال ويرهقُ
قال ياقوت الحموي : (معجم البلدان 6: 154) : “جِلّق لفظ أعجمى، يطلق على الغوطة كلها، وقيل على دمشق، وقيل موضع بقرية من قرى دمشق”.
رحم الله أبا الطيب، فما عساه أن يقول لو عاش أحداث غزة ؟
أتراهُ يقول:
أرقٌ على أرقٍ وقلبٌ يُحرَقُ ودِمٌ تسيل ودمعةٌ تترقرقُ
رحم الله أبا الطيب؛ لسان الأمة وحكيمها، وحفظ أهلنا في غزة ونصرهم نصرًا مؤزرًا.
زر الذهاب إلى الأعلى