مقالات
وقفات مع المتنبي وشعره (13) د . أحمد الزبيدي – الإمارات
د. أحمد الزبيدي
قال أبو الطيب في “مُعجز أحمد” (ص 216)، من (الخفيف) :
وَإِذا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ
وهذا لعمر الحق من وسائط قلائده، وأبيات قصائده، وإعجاز فرائده؛ كما يقول صاحب “اليتيمة”.
أراد بالنفوس: الأرواح، يقول: إذا كان الإنسان كبير النفس، عالي الهمة، طلبت همته الأمور العالية، فأتعبت أجسامها في مرادها…اه
قال ابن المقفع :” اقْتِصَارُ السَّعْيِ إِبْقَاءٌ لِلْجَمَامِ -[الراحة].-وَفِي بُعْدِ الْهِمَّةِ يَكُونُ النَّصَبُ.
وقال الشريف الرّضي:
ولكل جسم في النحول بلية
وبلاء جسمي من تفاوت همتي
يقول: لكل جسم في النحول بلية؛ أي يكون هزيلاً بسبب علة، أو سوء تغذية، أو غير ذلك، أما هو فسبب نُحوله علو همته، واتساع ساحته ونضاله في سبيل تحقيق مجده وسؤدده،
وقال ابن الجوزي: “مَا ابْتُلِيَ الإنسان قَطُّ بأعظمَ من علو همته. فإنَّ مَنْ علت همتُهُ يختار المعالي، وقد لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة؛ فيبقى في عذاب”.
قلت: وعلو همة الإنسان على قدر عقله، ومسؤوليته تجاه نفسه، وانتمائه لأمته وأهله.
وَمن قلائد أبي الطّيب المتنبي قَوْله:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقلِه
وأخو الجَهالَة في الشّقاوة ينعَمُ
ومنها أيضا :
تصْفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ
عمّا مضى منها وما يُتوقّعُ
فالْعقل والهم -عنده- لَا يفترقان. وقوله دواء مجرب.
قال ابن المعتز:
فحلاوة الدُّنْيَا لجاهلها
ومرارة الدُّنْيَا لمن عقلا
في “ربيع الأبرار” (ج 1: ص434) :” دخل يحيى بن أكثم على المأمون، وفيه بعض الرثاثة، فسأله عن حاله، فأنشأ يقول:
صفت الدنيا لأولاد الزنا
ولمن يحسن ضربا وغنا
وهي للحرّ مخاض كدر
غبيَّن الحر لعمري غبنا
فأمر له بمال ابتنى به سوق يحيى ببغداد.
وَمِنْ أقوالهم التي هي فِي نِهَايَة الْحسن وجودة التَّمْثِيل، “الْعقل كالمرآة المجلوّة، يرى صَاحبهَا مساوئ الدُّنْيَا، فَلَا يزَال فِي صحوه مهموماً مُتَعَذر السرُور، حَتَّى يشرب النَّبِيذ، فَإِذا ابْتَدَأَ بشربه صدئ عقله بِمِقْدَار مَا يشرب، وَإِن أَكثر مِنْهُ غشيه الصدأ كُله، حَتَّى لَا تظهر لَهُ صور تِلْكَ المساوئ، فيفرح ويمرح، وَالْجهل كالمرآة الصدئة (فَلَا يرى صَاحبهَا إِلَّا مَسْرُورا” قبل الشّرْب وَبعده”.
عزل أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب زيادًا عن عمل كان يتولاه له، فقال له زياد: يا أمير المؤمنين أمن عجز أو خيانة؟ فقال: لا من أحدهما، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك.
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: “لو كان للناس كلهم عقول لخربت الدنيا”.
وقال آخر: “لولا الحمقى لبطل العالم”، وقال بعضهم: “لو كان الناس كلهم عقلاء ما أكلنا رطبًا ولا شربنا عذبًا”.
يعني أن العقلاء لا يقدمون على صعود النخيل لاجتناء الرطب، ولا حفر الآبار لاستنباط الماء البارد العذب وينشد:
لما رأيت الدهر دهر الجاهل
ولم أر المغبون غير العاقل
شربت خمرا من خمور بابل
فصرت من عقلي على مراحل
قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله: “يا أبت! متى الراحة؟” فقال: “الراحة يا بني! عند أول قدم نضعها في الجنة”.
ورحم الله أبا الطيب:
وَإِذا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ
وأية نفس كبيرة كانت لأبي الطيب المتنبي؛ تحمله المشقة واللأواء، تدفعه كي يقف موقف النّدّ للند مع ممدوحه؛ وجل ممدوحه من الأمراء والوزراء، وتتأبى عليه أن يكون من الخدم والحاشية.. وأية نفس عظيمة هذه وهي تعلن عن نفسها بقوة وشراسة؛ في لقائه الأول مع كافور، فتجعله ينظر إليه من حالق، ويُصرّحُ ولا ينافق، بل يظهر ذلك على صفحات وجهه وفلتات لسانه!
وأية نفس متحررة تلك التي تجعله يسلك مسلكًا في الشعر يخالف فيه من قبله ويعجز من بعده، فيكون فيه وحيد عصره، وقريع دهره، بل تجعله إلى يوم الناس هذا :”ماليء الدنيا وشاغل الناس”.
وأية نفس أبية هذه؟ التي تجعله يتمرد على قرون طوال من الشعر والشعراء، دأبوا فيها على المطالع الغزلية!
فكانت عادتهم أن يقدموا النسيب على المديح، حتى كأن كل شاعر عاشق؟! وليس الأمر كذلك، بل يجوز أن يكون فيهم من يمدح ولا ينسب، إذ ليس كل شاعر عاشقاً! قال:
إذا كان مدْحٌ فالنّسيبُ المقدَّمُ
أكلُّ فَصيحٍ قال شِعْرًا متيَّمُ
والجواب الذي لا يخطئه أحد؛ هو لا!
لذا فالتصنّع والتقنّع في جميع صوره وكافة أشكاله، بغيض عند المتنبي، لأن الجمال -في رأيه- هو الجمال الطبيعي، الذي يعبر عن نفسه، دون دواعٍ من تبرج مصنوع، أو بَهْرَج مكذوب، وأحسن ما تكون المرأة أنثى حينما تكون غانية ، قد أغناها جمالُها عن الزينة والتطرية.
أَفْدِي ظِباَء فَلاةٍ عَرَفْنَ بها
مَضْغَ الكَلامِ ولا صبْغَ الحَواجِيْبِ
فهو يقدم نساء الأعراب، ويصفهن بأنهن ظباء فلاة، معشوقات الدل، متكاملات الحسن، لا يمضغن الكلام لفصاحتهن فيه، ولا يتكلفن صبغ الحواجب، لاستغنائهن عنه.
حُسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوة حُسنٌ غير مجلوبِ
ولقد لفتني استعمال أبي الطيب كلمة “التطرية” في قوله:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية…، وقد ظن الفاضل د. عادل سليمان جمال، -الذي جمع مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر وقرأها وقدم لها- بأن العلامة محمود شاكر هو أول من استحدث هذه الكلمة؛ ويعني بها: المكياج أو التواليت، وقد تبين لنا أن المتنبي قد سبق إليها بقرون، إلا أن يكون د. محمود شاكر أراد أنه استخدمها -حديثا- أو أحياها بنشرها بين الناس، فحينئذ لا تثريب عليه في ذلك.
قال الشُّريشي (ت ٦١٩ هـ) شارح مقامات الحريري، قال ابن رشيق: ومن أملح ما سمعه الناس في تفضيل البادية على الحاضرة من حلاوة وطلاوة وصحّة معنى، وقرب مأخذ، مأخوذ من قول أبي الطيب:
مَنِ الجَآذِرُ في زِيّ الأَعَارِيْب
حُمْرُ الحُلَى والمَطَايا والجَلَابِيْبِ ثم قال:
ما أَوْجُهُ الحَضَرِ المُسْتَحْسنَاتُ بِهِ كأَوْجُهِ
البَدَويَّاتِ الرَّعابِيبِ
حُسْنُ الحَضَارَةِ مَجْلُوبٌ بِتَطْرِيَةٍ
وفي البَدَاوَةِ حُسْنٌ غَيْرُ مَجْلُوبِ
الحضر: خلاف البدو، وأخبر عنه وهو يريد أهله، على سبيل التجوز، والرعابيب من النساء: الطوال القدود، الناعمات الأجسام، الواحدة رعبوبة.
{وأنهم يقولون مالا يفعلون… }الآية
وقد فهم بعض من فسر الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى عمّ ولم يَخص، وأطلق ولم ينص ، وأنه ذم الشعراء لتكلف الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن الطاعة،… ليذكر في البلغاء، ويكون مع الشعراء.
فكانت حاله داعية إلى قول الزور، والفخر بالكذب، والغرور، وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه، وذم من منعه وتناساه!
قال أبو العلاء المعري في ” رسالة الغفران” : “شهدت عليهم -الآية- بالتخرص وقول الأباطيل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}. قال ابن الأثير:”فاستعار الأودية للفنون، والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها، وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها؛ لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض، فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق”.
وقد رد ابن رشيق في كتابه “العمدة” هذا القول على صاحبه، فقال: ” فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ،… } الآية.
فهو غلط، وسوء تأول؛ لأنّ المقصودين بهذا النص شعراء المشركين؛ الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، ومسّوه بالأذى، فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا}..” يريد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة…الخ. في زمن النبي صلى الله عليه السلام ، وكل زمان، أما في زمننا وزمن العصور المتأخرة، فقد نهض لهذا الغرض : الشيخ القاضي يوسف النبهاني ، وأمير الشعراء أحمد شوقي، ومن الشعراء الشباب المعاصرين الشاعر الشامي “أنس الدغيم”، وقد أطلقت عليه لقب: “حسانُ العصر”، لأنه قَصَرَ شعره كله أو جله على مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، و الذب عنه وعن سنته وصحابته الكرام.
جاء في “أخبار النساء” لابن الجوزي أن الفرزدق دخل يوماً على سليمان بن عبد الملك، وهو خليفةٌ، فقال: أنشدني يا أبا فراس! فأنشده قصيدته حتّى بلغ إلى قوله:
خرجن إليّ لم يطمثن قبلي
فملن أصحّ من بيض النعام
فبتن بجانبيَّ مصرعاتٍ
وبت أفض أغلاق الختام
فقال له سليمان: “ما أظنّك يا أبا فراسٍ إلاّ قد أحللت نفسك، أقررت عندي بالزّنا، وأنا إمامٌ، ولا بدّ من إقامة الحدّ عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، ما أحللت نفسي إن كنت تأخذ بقول الله وتعمل به”. قال سليمان: “فبقول الله نأخذ، عليك الحد.” قال الفرزدق: “فإنّ الله يقول: {والشّعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون، وإنّهم يقولون ما لا يفعلون}. وأنا، يا أمير المؤمنين، قلت ما لم أفعل:”، فتبسّم سليمان، وقال: “تلافيتها يا أبا فراس، ودرأت الحدّ عن نفسك”، وخلع عليه، وأمر له بجائزة).
وقد ذكر “الشُريشي” في شرحه “مقامات الحريري” هذه القصة الطريفة، قال :” كان ابن هرمة ألأم الناس مع ادّعائه في شعره الكرم، فقال رجل: أتيناه في جماعة من قريش أحببنا أن يتنزه عندنا، ومشينا بزاد كثير فخرج علينا، وقال: ما جاء بكم؟ قلنا: شعرك حيث قلت:
إن امرأ جَعَل الطريقَ لبَيْتِه
طُنُبًا وأنكر حقَّه لَلَئِيمُ
وقولك :
وإذا تنوّر طارق مستنبح
نبحت فدلّته عليّ كلابي
وعوين يستعجلنه فلقينه
يضربنه بشراسف الأذناب
فنظر إلينا وقال: ما على وجه الأرض عصبة أسخف عقولًا منكم، أما سمعتم قول الله عز وجل: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] في الشعراء، والله أني لأقول ما لا أفعل، وأنتم تريدون أن أفعل ما أقول، والله لا أغضب ربّي في رضاكم، فضحكنا منه وأخرجناه معنا يتنزه حتى فني الزّاد.
وقوله: “مستنبح”؛ يريد أن الضيف الطارق ليلًا إذا لم يهتد إلى البيوت بنار ولا كلاب، وذلك لشدة البرد نَبحَ، فإذا سمعت الكلاب نبيحه نبحت فيقصدها حيث كانت .
قال الجاحظ: (“وإنما تفرح به، لأنها قد تعودت إذا نزلت الضيوف أن ينحر لهم فتصيب من قراهم”.
أما المتنبي -رحمه الله- فقد شهدوا له بأنه كان يأخذ نفسه بعزائم الأمور، وكان يأبى الأخذ بالرخص، وكان يؤثر الصدق قولًَا وعملًا، ومن ذلك رفضه أن يغيّر لون شعره بالخضاب، مع أن الخضاب سنة، قال:
وَمِنْ هَوَى الصَّدْقِ في قَوْلِي وعادَته
رَغِبْتُ عَنْ شَعَرٍ ه في الوَجْهِ مَكْذُوبُ
يقول: ومن هوى الصدق وإيثاري له، وحرصي عليه وإعجابي به، رغبت عن الخضاب الذي يغر مبصره، ويخدع متأمله، فرفضت ذلك مؤثرًا للصدق، متحملًا على الحق.
قال الطاهر بن عاشور: ” لأن النفوس الكبيرة لا يهمها إلا المشيُ على الصواب أبدًا، فهي لا تحب أن تخالفه، ولذلك تبتهج بكل ما يجنبها الضلالَ عنه”.
قال د. إحسان عبا س: “فمن كان يعجبه أن يتعرف إلى النفوس الكبيرة والعبقريات الفذة في صراعها وتقلبها وأخطائها، فهو واجد في اعترافات تولستوي وأشباهها، ما يرضيه، وإن كان يريد أن يحس كيف تتمخض النفس الإنسانية من خلال التيار العاطفي لمعانقة الفكر، وتعيش في جحيم العاطفة العاتية لتبلغ المجرد، وتبتدع لنفسها الحياة المرجوة من خلال الحياة نفسها، وتشك أو تؤمن تحت وطأة التشاؤم والتفاؤل، ففي مذكرات ماري بشكرتسيف أروع قصة لأغرب حياة نفسية، عاشتها فتاة أكرانية مسلولة، تحلم بالمجد وتعيش من أجله، وتتخذ من كل شيء، صغيرًا كان أو كبيرًا، موضوعًاً للتأمل والتحليل، وقد كتبت مذكراتها لتقص للناس التاريخ الكامل لامرأة، بكل أفكارها وآمالها، وما عانته من خيبة وأمل، وما أدمى قلبها من خسة الناس ولؤم طباعهم، وما نعمت به من جمال واستشعرته من مباهج وأحزان”.
مزج ذكيّ بين التّراث والحداثة.
سلمت يداك.
أحسنت جزاكم الله خيراً وكأنهم يتحدثون عن واقع الحال، وبالفعل الحقائق البشرية لا تتبدل
حفظ الله تراثنا، وحفظ كل من يحرسه ويعمل على إظهاره، ولعن كل من يحاول تشويهه أو الحط من قيمته
وجعلك الله د أحمد من كبار حراسه والقيمين نقاء صورته
مقال رائع ومفيد
تحياتي واحترامي وان تناولك المتنبي وحالات شعره الفريدة ذكاء مطلب دكتور احمد الزبيدي ولقد احسنت صنعا في مقاربات جميلة وممتعة وفي مكانها ومفيدة للقارئ مقالاتك فيها غربلة للغة العرب وبحث فيها وفي تراكيبها وانشائها ومضمونها .اتنمى لك دوام المسيرة والاجتهاد فيها فانت متميز بسبك الافكار وترتيبها .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولعملك الاكثر من رائع تحياتي .مهند الشريف
سلمت يمناك دكتور
دائما تنتقي المواضيع الشيقه التي تجذب القارئ
كل الاحترام والتقدير 🙂جزاك الله خيرااا