مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم (14) د.  أحمد الزبيدي        –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله – :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).

‌قصَّة عيسى ‌عَلَيْهِ ‌السَّلَام

ولد عيسى -عليه ‌السلام – في ‌‌‌”بَيت ‌لَحْم” بفلسطين. وقد اشتهر أمره حين تكلم في المهد، فخشيت أمه عليه فاحتملته إلى مصر، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتى عشرة سنة، فظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره. فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه “ابن البغية”، فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتَّاب، فجعل لا يعلمه المعلم شيئًا إلا بدره إليه، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى “بيت إيليا”، فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى “إيليا” أي القدس، وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم. وكان نزول الإنجيل على عيسى بن مريم عليه السلام في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة، ومكث حتى رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب ذلك الزمان، فموسى -عليه السلام – كان أهل زمانه سحرة، فأعجزهم بآيات بهرت أبصارهم، وخضعت لها رقابهم، ولما كان السحرة خبراء وأذكياء أسلموا سراعًا ولم يتلعثموا، وكذلك عيسى بن مريم بعث في زمن ارتفع فيه شأن الطب، فأرسل بمعجزات باهرة، وكرامات ظاهرة، فأبرأ الأكمه، والأبرص، والمجذوم، وأحيى الميت المقبور.

ومع أن عيسى عليه السلام أقام عليهم الحجج والبراهين؛ إلا أنهم استمروا على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فآمنت به طائفة صالحة؛ فكانوا له أنصارًا وأعوانًا، فقاموا بمتابعته ونصرته، وحين هّمَّ به بنو إسرائيل، ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، وعزموا على صلبه وقتله، أنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم، وألقى شبهه على أحد أصحابه، فأخذوه فصلبوه وقتلوه ظنًا منهم أنه عيسى عليه السلام، وهم في ذلك مخطئون .

وقد تمسك الطاعنون في قصة عيسى عليه السلام بشبهتين: الأولى : قوله تعالى :{وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابنَ مريمَ ‌أَأَنْتَ ‌قُلْتَ ‌لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ}.

قالوا: إذا قال عيسى-عليه السلام- هذا الكلام فهو مشكل، وإن لم يقله يبقى الإشكال، والجواب: أن هذا الكلام مَعْطُوفٌ عَلَى ما قبله وهو قوله: {إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}. وعليه فإن هذا الْكَلَام إِنَّمَا يذْكره الله لِعِيسَى يوم الْقِيَامَةِ، والدليل أن الله تعالى عقّب على هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}. وَالْمُرَادُ بِهِ يوم الْقيامة.

أما قوله تعالى { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وهو استفهام، فكَيْفَ يَلِيقُ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ الِاسْتِفْهَامَ؟ وإذا كَانَ الله عَالِمًا بِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَلِمَ خَاطَبَهُ بِهِ؟

والجواب عن الأول: أنه استفهام على سبيل الإنكار، و الثاني: أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم، والله تعالى ما خلقها البتة، وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالى ليس خالقها، فصح أنهم أثبتوا في حق بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلها له فصح بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية.

قال الرازي:” واعلم أن الله تعالى لما سأل عيسى هل قلت كذا ؟ لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق”.

قال الإمام ابن حزم “الفصل” (ج 1: ص48 ) : ( وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى وصف قَوْلهم فِي كِتَابه إِذْ يَقُول تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} وَإِذ يَقُول تَعَالَى حاكياً عَنْهُم {أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {‌أَأَنْت ‌قلت ‌للنَّاس ‌اتخذوني ‌وَأمي ‌إِلَهَيْنِ من دون الله} لما انْطلق لِسَان مُؤمن بحكاية هَذَا القَوْل الْعَظِيم الشنيع السَّمْج السخيف وتا الله لَوْلَا أننا شاهدنا النَّصَارَى مَا صدقنا أَن فِي الْعَالم عقلا يسع هَذَا الْجُنُون ونعوذ بِاللَّه من الخذلان).

وتمسكوا بقوله تعالى: {‌وَلا ‌أَعْلَمُ ‌مَا ‌فِي ‌نَفْسِكَ} ، و بأن النفس هي الجسد، وظاهر الآية يوهم الجسمية للحق تبارك وتعالى. وان كلمة (في) للظرفية، وهي لا تجيء إلا في الأجسام.

والجواب: ان المفسرين ذكروا فيه عبارات: تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، وقيل: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقيل: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل: تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة، وقيل: تعلم ما أقول وأفعل، ولا أعلم ما تقول وتفعل. وقد تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا: النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسمًا.

والجواب: أن النفس عبارة عن الذات، يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد، وإنما ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام. ثم قال تعالى:{إنك أنت علام الغيوب} وهذا تأكيد للجملتين المتقدمتين أعني قوله: {إن كنت قلته فقد علمته} وقوله: {تعلم ما في نفسي ‌ولا ‌أعلم ‌ما ‌في ‌نفسك}.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي انت باحث بعلم النقد واللغة دكتور احمد الزبيدي وهو شانك ودراستك ومجالك والقران معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في اللغة باعتراف العدو قبل الصديق والتفسير ياتي من هذا الباب وهذا السياق وهذا المدخل والمنحى واذا سالنا معجزة اللغة في اي شيء والجواب في كل شيء قياسا وقالبا وقلبا وهيئة ومستويات عدة فهو نص عربي فصيح فيه الكثير وقد اوضحت واحسنت وانت خير من تدرك ذلك وان لله حكمة في قرانه خاتم الكتب وقد حفظه في الصدور والقلوب قبل اللسان وهذا الاهم .مقال يهدي للتي هي اقوم وهو على الصراط المستقيم مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لك وللغتك وبلاغتك التي ندركها ونلمسها من كلامك .تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى