هذا نداءً لجميع الناس؛ فكلهم بنوا آدم، ويجوز أن يريد قومًا مخصوصين. يقول: نحن نازلون في منازلٍ يتفرق أهلها بالموت، وإنما ذكر الغراب لأن العرب تتشاءم بصياحه. يقولون إذا صاح الغراب في دارٍ تفرق أهلها، وهو كثيرٌ في اشعارهم.
وقال المقدسي، في (كشف الأسرار، في حكم الطيور والأزهار) في صفة غراب البين: هو غراب أسود، ينوح نوح الحزين المصاب، وينعق بين الخلان والأحباب، إذا رأى شملا مجتمعا أنذر بشتاته، وإن شاهد ربعا عامرا بشر بخرابه، ودروس عرصاته، يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن، ويحذر الآكل غصة المآكل، ويبشر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين. اه
وقال :
نبكي على الدنيا وما من مَعْشرٍ
جمعتُهم الدُّنيا فلمْ يَتفرّقوا
يقول: نبكي على الدنيا، مع أن عادتها أن تفرق الأحباب وتشتت الأصحاب.
وَقد عاب عليه الإمام الواحدي انْتقاله من الْغَزل والتشبيب إِلَى الْوَعْظ وَذكر الْمَوْت والترهيب، وقال: لَا يستحسن إِلَّا في المراثي، في حين ان أبا الفتح ابن جني “فيلسوف اللغة” قال: هَذَا حذق مِنْهُ وَحسن تصرف.
الغُراب في الثقافة العربية :
وقد علل الجاحظ رحمه الله في كتابه -الحيوان-(ج: 2، ص: 214) سبب تشاؤم العرب من الغراب. قال: “إنّما لزمه هذا الاسم لأن الغراب إذا بان أهل الدّار للنّجعة، وقع في مرابض بيوتهم يلتمس ويتقمّم، فيتشاءمون به ويتطيّرون منه، إذ كان لا يعتري منازلهم إلّا إذا بانوا، فسمّوه غراب البين”. وإذا قالوا: «أصفى من عين الغراب» فإنّما يريدون حدّته ونفاذ البصر. والعرب تسمّي الغراب ابن دأية، لأنّه إذا وجد دبرة في ظهر البعير، أو في عنقه قرحة سقط عليها، ونقره وأكله، حتّى يبلغ الدّايات. وقد مدحوا بسواد الغراب. قال عنترة : [من الكامل]
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم
فائدة:
الدّيات بتشديد الدال وبالياء المثناة تحت والتاء المثناة فوق في آخره هي عظام الرقبة وفقار الظهر. قال ابن الأعرابي في نوادره: فقار البعير ثمان عشرة فقرة، وأكثرها إحدى وعشرون فقرة، وفقار الإنسان سبع عشرة فقرة.
روي: أن عتبة بن أبي سفيان، ولى رجلا من أهله على الطائف، فظلم رجلا من الأزد، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال: أصلح الله الأمير إنك قد أمرت من كان مظلوما أن يأتيك، فقد أتاك مظلوم غريب الديار، ثم ذكر ظلامته بضجة وجفاء فقال له عتبة: أني أراك أعرابيا جافيا، والله ما أحسبك تدري كم فرض الله عليك من ركعة بين يوم وليلة! فقال الأزدي:
أرأيتك إن أنبأتك بها أتجعل لي عليك مسألة؟ قال عتبة: نعم. قال :
إن الصلاة أربع وأربع، ثم ثلاث بعدهن أربع، ثم صلاة الفجر لا تضيّع. فقال عتبة: صدقت، ما مسألتك؟ قال: كم فقار ظهرك؟ قال عتبة: لا أدري. فقال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فقال عتبة: أخرجوه عني، وردوا عليه غنيمته.
فائدة:
قال “ابن عطية” في تفسيره (ج4 :ص88) قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] روي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار ابراهيم، وأن الوزغة كانت تنفخ النار عليه لتضرم. وكذلك البغل. وروي أن الخطاف والضفدع والعضرفوط، كن ينقلن الماء ليطفئن النار فأبقى الله على هذه وقاية وسلط على تلك النوائب والأذى اهـ
وفي المثل: «لا يكون ذلك حتّى يشيب الغراب». وقال العرجيّ: [من الخفيف]
لا يحول الفؤاد عنه بودّ
أبدا أو يحول لون الغراب
ويقال نغق الغرابُ ينغق نغيقا، بغين معجمة، ونعت ينعب نعيبا بعين غير معجمة. فإذا مرّت عليه السّنون الكثيرة وغلظ صوته قيل شحج يشحج شحيجا.
أسماء الغراب:
والغراب لسواده إن كان أسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع. ومر معان تسميتهم له «ابن داية»، وقد يراعون التفاؤل فيسمونه “حاتم”. إذ كان يحتم الزّجر به على الأمور.
ويقولون: ذهب الغراب يتعلم مشية العصفور، فلم يتعلّمها، ونسي مشيته، فلذلك صار يحجل ولا يقفز قفزان العصفور.
قال الأصمعيُّ: قدم علينا أعرابيٌّ فأقام عندنا أياماً، ثم رجع إلى البادية، فسأل عن إخوانه وأترابه، فأُخبر أن الدهر أبادهم وأفناهم، فبكى وأنشأ يقول:
ألا يا موتُ لم أرَ منك بداً
أبَيْتَ فما تحيدُ ولا تحابيْ
كأنك قد هجمت على مشيبي
كما هجم المشيبُ على شبابيْ
كثير والمرأة الخزاعية:
وقيل إن كثّيرا تعشّق امرأة من خزاعة يقال لها أمّ الحويرث، فشبب بها. فكرهت أن يفضحها كما فضح عّزَّةَ. فقالت له: إنك فقير، فابتغ لك مالا، ثم تعال فاخطبني، كما يخطب الكرام، قال: فاحلفى لى ووثّقى أنّك لا تتروّجين حتى أقدم عليك، فحلفت ووثقت له، فمدح عبد الرحمن بن الأزدىّ، وأصاب منه ما يريد؛ فلقى ظباء سوانح، ولقى غرابا يفحص التراب بوجهه فتطيّر من ذلك، واستفتى بعض اللِّهبيين فأجابه بما لا يسره، فقال :
تيممتُ لِهباً أبتغي العلمَ عندهم
وقد رُدّ علم ُالعائفين الى لِهْبِ!
فقلت لهم: ماذا تروا في سوانحٍ
وصوتِ غرابٍ يفحصُ الأرض بالترب؟
فقالوا: جرى الظبيُ السنيحُ ببينها
ونادى غرابٌ بالفراقِ وبالسلبِ
فإلا لا تكن ماتتْ فقد حالَ دونَهَا
خباءُ خليلٍ باطنٍ من بنىْ كعبِ
فألفاها – كما قالوا -تزوجت بابن عم لها.
“حلم مُعاوية” :
وفي كتاب “حلم معاوية” لابن أبي الدنيا – من تحقيقنا (ص89): وبإسناده عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: خطبهم معاوية على منبر مكة، فقال: إن عتبة بن أبي سفيان كتب إلي، يذكر أن أناساً من باهلة دلوا الروم على عورات المسلمين، وبالله لقد هممت أن أكتب إليه أن يحملهم في البحر، ثم يغرقهم. فقام عبدٌ أسود، فقال: والله لا نرضى بكل رجلٍ منهم رجلاً من ولد أبي سفيان. فقال معاوية: اجلس يا غراب. فقال: بالسواد تعيرني؟ الغراب ينقر عين الرخم.
وقال عمرو بن العاص: ألا تضرب عنق هذا الكلب؟ قال: إنا -والله – لا نحول بينهم وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.
بين الأخطل ومعاوية:
ومن حلمه أيضا ما ذكر أن الشاعر -النصراني- الأخطل (19 – 90 هـ) وفد على معاوية فقال: إني قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال: إن كنت شبّهتنى بالحية أو الأسد أو الصّقر فلا حاجة لى فيها؛ وإن كنت قلت فىّ كما قالت الخنساء
وما بلغتْ كفُّ امرئ متناولاً
من المجد إلّا والذي نلتَ أطولُ
ولا بلغ المُهدون فى القولِ مدحةً
وإن صدقوا إلّا الّذي فيك أفضلُ
..فهات، فقال الأخطل: والله لقد أحسنت وقلت بيتين؛ ما هما بدون ما سمعته، وأنشد:
إذا متّ مات العرف وانقطع الندى
فلم يبق إلّا من قليل مصرّدِ
وردّت أكفّ الرّاغبين وأمسكوا
من الدّين والدّنيا بخلف مجرَّدِ
فوصله وأحسن إليه.
قال الإمام الدَّميري : أباح الشعبي أكل الغراب الأسود الكبير، الذي يأكل الحبوب والزرع، فأشبه الحجل.
وقال أبو حنيفة: الغربان كلها حلال.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: «إني لأعجب ممن يأكل الغراب وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله للمحرم وسماه فاسقا، والله ما هو من الطيبات». وأما مذهب الشافعي، فحاصل ما في الروضة أن الغداف يحرم أكله، والذي في الرافعي أنه حلال، وهذا هو المعتمد في الفتوى، كما نبه عليه شيخنا في المهمات.
تحياتي واحترامي وان مقالك جميل وكلامك مترابط برؤية فنية ولغوية مسبوكة بشكل رائع دكتور احمد الزبيدي. وفيها عن التشاؤم ولكن رؤيتك تحمل الاضداد ففيها طباعة نقدية واعدة واحترافية تحمل في طياتها قوة اللغة وبلاغة المعنى وعمق الفكرة وموازية الشواهد بشكل مرسوم كخارطة واقعية تماما .الله يعطيك العافية مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ونحن موعودون مع الجديد دوما منك الذي يحمل الجمال والعمق واللون المختلف تحياتي .مهند الشريف
تحياتي واحترامي وان مقالك جميل وكلامك مترابط برؤية فنية ولغوية مسبوكة بشكل رائع دكتور احمد الزبيدي. وفيها عن التشاؤم ولكن رؤيتك تحمل الاضداد ففيها طباعة نقدية واعدة واحترافية تحمل في طياتها قوة اللغة وبلاغة المعنى وعمق الفكرة وموازية الشواهد بشكل مرسوم كخارطة واقعية تماما .الله يعطيك العافية مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ونحن موعودون مع الجديد دوما منك الذي يحمل الجمال والعمق واللون المختلف تحياتي .مهند الشريف
جزاك الله خيرا يا د. أحمد
سلمت يمنااك دكتور أحمد كالعادة مقال رائع
باانتظار المزيد والمزيد 🙂أسعد الله أوقاتك