مقالات

بين العامية والفصحى (7) د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

ردود على شبهات المستشرقين وجنودهم

 

د. أحمد الزبيدي

 

(1)

(سلامة موسى)

(1887 – 1958 م)

تكلمنا في المقال السابق عن الجهود الكبيرة، والأعمال الخطيرة؛ التي تَكبَّدها المستشرق “ولكوكس” من أجل تحقيق نظريته في “الإقصاء والإدناء”، غير أن جهوده كلها باءت بالفشل والخسران .

 ومع إطلاق آخر سهم كان في جعبة “ولكوكس” شرع يبحث عن خليفة له؛ يكمل مشواره، ويقيل عثاره، فما وجد أكثر ذكاء وإخلاصًا من “سلامة موسى” الذي عبر عن حاله في مقاله :”إن سيدي ولكوكس ‌نثر ‌كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرها سهمًا، وأشدها مكسرٍا، فوجهني إليكم ورماكم بي”.

‌قال عنه الزركلي :”سلامة ‌موسى القبطي المصري: كاتب مضطرب الاتجاه والتفكير. ولد في قرية “كفر العفي” بقرب “الزقازيق”، وتعلم بالزقازيق وباريس ولندن. ودعا إلى الفرعونية. …وجحد الديانات في شبابه، …وقام بحملة على الصحافة اللبنانية بمصر، فنشرت “دار الهلال” رسائل بخطه تثبت أنه كان عينا عليها لحكومة صدقي. وصنف وترجم ما يزيد على 40 كتابا، طبعت كلها. …وكتب في مجلات وصحف متعددة لم يكن يستقر في الانقطاع إلى إحداها، إلى أن مات في أحد مستشفيات القاهرة. وكان كثير التجني على كتب التراث العربيّ، يناصر بدعة الكتابة بالحرف اللاتيني” .

على أنه لا يهمنا من حياته إلا ما يتصل بأفكاره وتلمذته للمستشرق “ولكوكس”، وتبنيه لنظريته، فأول ما كان من أمره أنه كان من المصريين الذين أيدوا ويلككس في دعوته إلى العامية، فأخذ يدعو كما دعا ولككس إلى اتخاذ العامية لغة للكتابة بدعوى أن الفصحى عسرة وصعبة؛ يعانيها الخاصة أكثر مما يعانيها العامة، وأنها عاجزة عن تأدية الرسالة الأدبية والعلمية ويقول: “ولكن نكبتنا الحقيقية هي أن اللغة العربية لا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به؛ لأن الأدب هو مجهود الأمة وثمرة ذكائها وابن تربتها ووليد بيئتها، فهو لا يزكو إلا إذا كانت أدائه لغة هذه البيئة التي نبت فيها”.

ثم نشر مقالات يشيد فيها بسيده وولي نعمته “ولكوكس”، ويفخر بعبقريته الفذة، فهو  مهندس، وأديب، ومن أشد المخلصين لمصر، حمل همومها، وشُغل بها؛ حتى أصبحت همومه مصرية أكثر مما هي انجليزية. والهم الكبير الذي يشغله ويقلقه، هو هذه اللغة الذي نكتبها ولا نتكلمها، فهو يرغب في أن نهجرها ونعود إلى لغتنا العامية فنؤلف فيها وندون بها آدابنا وعلومنا. ثم يمضى سلامة موسى يبرر تضجر وتبرم “ولكوكس” من اللغة العربية، فيقول: “إن التأفف من الفصحى التي نكتب بها والذي شعر به “ولكوكس” ليس حديثًا، وإنما يرجع إلى ما قبل ثلاثين سنة حين نعى قاسم أمين على الفصحى صعوبتها وقال كلمته المشهورة 🙁 إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم أم نحن فنفهم لكي نقرأ)، واقترح أن يلغى الإعراب فيسكن أواخر الكلمات. وحين قام على أثرها أحمد لطفي السيد الذي يلقبه سلامة موسى (منشيء الوطنية المصرية الحديثة)، وأفلاطون الأدب العربي كما لقبه العقاد، بـ “أستاذ الجيل” كما كان يطلق عليه طه حسين، فأشار باستعمال العامية”.

والمتتبع لحياة سلامة موسى، والمراقب لنشاطه الفكري الذي كان يقوم به يعلم تمام العلم انه كان دائما يمشي عكس تيار الأمة العربية، قهو في كل ما كتب ، وكل ما قال لم يرد لها الخير ، ولم يرقب فيها وفي تراثها إلا ولا ذمة؛ وفي السطور القليلة القادمة سأطوف بالقاريء حول أفكار الرجل، التي كان ينادي بها، ويحلم في تحقيقها؛ واترك له القرار والحكم الأخير.

  • صنف سلامة موسى كُتيبًا صغيرًا سماه “مقدمة السوبرمان”، قال فيه : “كلمة السوبرمان ألمانية معناها الإنسان الأسمى، وضعها الفيلسوف نيتشة ، وأراد بها إيجاد إنسان آخر أعلى همة وأرقى شأنًًًا من الإنسان الحاضر، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمحو الضعفاء ودعم الأقوياء، فالضعيف لا يستحق الحياة، وقد وجدت هذه الأفكار من موسى بشدة لأفكار نيتشة التي شجع الناس فيها على الانحلال من القيود الدينية والأخلاقية”.

  • كتب يومًا من الأيام رسالة في (المقتطف) ممهورة باسمه يخاطب فيها الحكومة المصرية وينصحها بتبني مذهب الاشتراكية، قال: (ما هي اعتراضاتكم على الاشتراكية وعلى الالحاد؟ ماتت بالأمس زوجة لصديق اشتراكي لي، فشيعناها إلى القبر بلا صلاة، وكان على عربة المائتة علم كبير مكتوب عليه بحروف واضحة، يكاد يقرأها الأعمى (لا رب ولا سيد) ، ولم أر العالم اختل بذلك ولا الطريق تغيرت ولا الله ظهر ليثبت وجوده).

  • وقال في كتاب: “هؤلاء علموني”: “إن الأمم العربية جميعها فهمت النهضة على أنها التحرر من الأجنبي المستعمر ومن الوطني المستبد، فطالبت بالاستقلال…، ولكن الأمم الأوروبية فهمت النهضة على أنها قبل كل شيء تحرير الضمير البشري ففصلت الدين عن الدولة..”اه.

  • ذكرت مجلة “المنار” المعاصرة لسلامة موسى أن أول من دعا إلى المساواة بين الذكران والإناث في الإرث وغيره ‌سلامة ‌موسى، لما اشتهر عنه شدة البغض للعرب والإسلام ؛وذنبهم انهم فتحوا بلاده -مصر- وجعلوها إسلامية عربية، وكان يفضل على ذلك أن تظل خاضعة للرومان المسيحيين على ظلمهم لقومه القبط، وما هو معلوم بالتواتر من عدل العرب فيهم ، الذي لولاه لم يدخلوا في الإسلام أفواجًا بمحض اختيارهم حتى كان هذا سببًا لتبرم بعض عمال المسلمين بذلك وشكواهم منه للخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بتقليله مال الجزية فأجابه عمر بتلك الكلمة الخالدة (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث ُهاديًا ولم يبعث جابيًا) .

  • سلامة موسى في عيون معاصريه:

  • رأي الطنطاوي:

قال الشيخ علي الطنطاوي :” قامت في مصر في العشرينيات حملة قوية، لنبذ الطربوش واتخاذ القبّعة، يدعو إليها سراً أكثر الذين درسوا في أوربا وحملوا منها العلم الحديث ومع هذا العلم جراثيم المرض الخبيث، ودعا إليها جهرًاً ‌سلامة ‌موسى وأمثاله. وكادت تقضي على الطربوش لولا أن ردّتها أقلام قوية ورفضها زعماء كبار ما ‌سلامة ‌موسى وأمثاله أمامهم إلا الأرانب تحت أرجل الفِيَلة.”

قال الطنطاوي في ذكرياته :” كان ‌سلامة ‌موسى يُعلِن جهراً في جرائد مصر أن الدعوة العربية ضلالة، وأن الرابطة الشرقية سخافة، وأن مصر قطعة من أوربا؟”.

رأي سعد زغلول: “وما مثل الذين يبدلون بشعارهم شعار غيرهم إلا كمثل الذين يتبرؤون من أنسابهم وينتسبون إلى غير آبائهم، فلا يكسبون إلا غضب الآباء وأن يُعَدّوا من الأدعياء”.

رأي طه حسين :

>إن الأستاذ ‌سلامة ‌موسى ليس من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة، وقد يكون حرًا دستوريا وقد يكون وطنيا، بل قد يكون اتحاديا،ولكنه على كل حال لا يعلن رأيه السياسي أو لا يتكلف إعلانه ولا يتخذ لنفسه لونًا، وهو من أنصار الجديد، وهو يعلم أني أرى رأيه وأشاركه فيه دون حفظ ولا احتياط، ولكن نصره للجديد قد اضطره إلى شيء من الإسراف”.

كنت أحب ومازلت أحب ألا يتورط فيه الباحثون المنصفون، وهو مسرف في ازدراء الأدب العربي القديم والغض منه وقد أفهم ألا يكون هذا الأدب القديم كما هو ملائمًا كله لذوقنا الحديث أو كافيٍا لحاجات أنفسنا، ولكن القدماء لم يضعوا أدبهم لنا وإنما وضعوه لأنفسهم. وليس من شك في أن هذا الأدب القديم كان يلائم أذواق القدماء وحاجات نفوسهم، فإذا لم يلائم أذواقنا وأهواءنا فلنبتغ غيره لا أكثر ولا أقل، وهو مسرف أيضا حين يقول: “إن الأدباء المصريين لم يكن لهم شأن في حركة الاستقلال، لم يقودوا الأمة في هذه الحركة، وإنما قادتهم الأمة بل قادهم الرعاع إلى الاستقلال، وقد يكون هذا حقًا بالقياس إلى هؤلاء الشعراء الذين تبعوا الجمهور ولم يتبعهم”.

‌‌رأي العقاد:

 قال الأستاذ العقاد: “ومن سقوط الهمة أن يتوارى الإنسان وراء القبّعة خجلًا من جنسه وتهافتًاً على لذة عارضة، ومن الجبن، لا من الجرأة على الجمود، أن يسرق مظهر قوم لا يحسبونه كأحدهم ولا يُنزِلونه بينهم منزلتهم، وإن لبس ما يلبسون وتكلّم ما يتكلمون”.

رأي  الأستاذ رمضان عبد التواب:

 قال الأستاذ رمضان عبد التواب وهو أستاذ لغوي كبير:” ولقد يلفت النظر أن قطب الدعاة إلى العامية في نصف القرن الماضي، وهو “‌سلامة ‌موسى”، لم يكتب واحدا من مؤلفاته، أو يسطر كلمة في مقالاته، باللغة التي كان يدعو إليها. فهل ترى أقسى من هذا على نفوس هؤلاء الحاقدين الحاسدين؟!”.

وكانت حملة ‌سلامة ‌موسى على الأدب العربي مثارًا لمعارك متعددة، كان أبرزها معركته مع زكي مبارك، والرافعي، ومحمود شاكر، والطنطاوي، وتوفيق دياب، وغيرهم من العلماء والأدباء، غير أن دياب أشعل معركته مع سلامة موسى حول “الأدب المكشوف” في نظر موسى لا يضيرنا أن يسمي كُتابنا الأشياء بأسمائها وأن يكتبوا أو يعربوا لقارئاتهم، وقرائهم ما تنطوي عليه مخادع الزوجين أو الخليلين من أسرار …!

 وقد استمات ‌سلامة ‌موسى في دفاعه عن الحرية المطلقة في الأدب وعدم التقيد أصلا بالأخلاق.

ولو ذهبنا نستقصي حياة سلامة موسى وجهاده لوجدنا أنه بلغ رتبة في الكتابة الأدبية، مما يضعه في مصاف المستشرقين الكبار ؛ “سبيتا”، و”ولمور”، و”ولكوكس”، و”دي ساسي”، و”فيشر”، و”جولد زهير” وغيرهم، فقد كان خصمًا شرسٍا للعرب ولغتها، ودينها، وقيمها النبيلة، ومثلها العليا، والأمجاد التي عرفتها وعاشت حياتها من أجل الحفاظ عليها. فمنذ نعومة أظفاره وهو يكتب ويعمل على هدم هذه المعالم في عنف حينًا وفي رفق حينًا آخر، واستمر على ذلك حتى توفي في عام 1958  في القاهرة.

كناطحٍ صَخْرةً يَوْماً لِيَفلِقَها

 فلمْ يَضْرها ‌وأَوْهَى ‌قَرْنَهُُ الوَعِلُ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحياتي واحترامي وان التراث العربي والاسلامي من اكثر الحضارات التي تعرضت للجحود والحرب لاهميته وعظمة شانه ومكانته الاخلاقية وقد بينت دكتور احمد الزبيدي في مقالك على المؤامرات التي حيكت في الخفاء لتسيطر على العقل العربي وقد فشلت وكان مقالا واضح المعالم جريء بالطرح ويوضح بعض النقاط التي غابت عن اذهاننا ويضعنا امام التحدي وهذا فضل تؤجر عليه علامتنا وباحثنا دكتور احمد مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولقلمك الجريء الجلي الغيور على التراث العربي والاسلامي والمحب والمقدر له تحياتي مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى