أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ: عالم بالأدب، غزير الاطلاع، غزير الإنتاج. اشتهر باسمه (أحمد أمين) وضاعت نسبته الى (الطباخ) . وُلد وتوفي بالقاهرة.
درس مدة قصيرة في الأزهر. وتخرج بالقضاء الشرعي، ودرّس بها، وتولى القضاء في المحاكم الشرعية. ثم عيّن مدرسا بالجامعة المصرية. وانتخب عميدا لكلية الآداب، ثم مديرا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية سنة 47 . وكان عضوا في المجامع العلمية العربيّة؛ بدمشق، والقاهرة، والعراق . ومنحته جامعة القاهرة لقب “دكتور فخري”. أشرف على (لجنة التأليف والترجمة والنشر) مدة ثلاثين سنة، ومن أهم آثاره العلمية؛ “فجر الإسلام”، و”ضحى الإسلام”، و”ظهر الإسلام” .
موقفه من اللغة والتراث:
عندما انطلقت شكاية دعاة العامية الأجانب؛ من جمود اللغة، وتأخرها عن مجاراة اللغات الأخرى، وظهور ضعفها في وضع الأسماء الدالة على الأشياء المستحدثة، وفي وضع مصطلحات العلوم والفنون الجديدة، رأوا في العامية انها هي المخلص، وهي وحدها القادرة على فعل كل ما عجزت عنه أختها الفصحى، فافترق الناس على اثر ذلك فريقين: فريق انبعث يرد على هذه الفرية، والعمل على إثبات سعة الفصحى، وقدرتها على التجدد والنماء في مختلف العصور، فهبوا إلى خدمة الفصحى من حيث؛ العمل على توسيعها، وتلبية احتياجاتها بوضع مصطلحات لكل جديد من العلوم والفنون، ووضع أسماء لكل حديث يتجدد من مظاهر المدنية وصورها الجديدة، وهو اتجاه طيب ومحمود، تحتاجه اللغة ويحتاجه أصحابها؛ حاجة الحي إلى الماء والهواء.
وأما الفريق الثاني فقد ركب رأسه وأبى إلا أن يكون تيسير اللغة وتبسيطها على حساب اللغة نفسها، فقالوا بوجوب هجر الكثير من المفردات، بل صرحوا بإماتتها ، حتى تحيى الأم ويتسع صدرها لكل جديد؛ من الأسماء والمصطلحات، خيفة أن تزداد المادة اللغوية ضخامة إلى ضخامتها، وهي من ذلك لا تحتاج إلى زيادة وسعة، وكان على رأس هؤلاء جميعا الأديب المشهور “أحمد أمين”، فهو من أوائل الذين لبوا دعوة المستشرقين؛ ولهلم سبيتا، وولمور، وويلكوكس، وجولدتسيهر في العمل على تطبيق نظرية (الإقصاء والإدناء). قال طرَفة بن العبد :
إذا القومُ قالوا مَن فَتًى؟ خِلتُ أنّني
عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلّدِ
ومن خلال عمله كعضو في مجمع اللغة العربية في مصر تقدم باقتراح إلى مؤتمر المجمع تحت عنوان (اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة)، حمل فيه على اللغة العربية وعلمائها حملة شعواء ، متهمًا العربية بالجمود، وعلماءها بالتزمت والتعصب والجحود! ، مما أدى -في رأيه- إلى إقفال باب الاجتهاد في التشريع واللغة، وساعد على نمو العامية وازدهارها، وأن السبيل إلى إنهاضها وبعثها من جديد؛ هو فتح باب الاجتهاد في اللغة. وهو اجتهاد يختلف عن كل اجتهاد عرفه العلماء والفقهاء والمجتهدين، ويختلف عن معناه المعروف في اللغة والاصطلاح! فهو -كما ترى- حكم بالإعدام على جملة من المفردات من المعاجم، بجريرة أننا لا نستعملها في كلامنا، وفي كتاباتنا، وليس هذا فحسب، بل تعداه إلى العمل على تغيير بعض القواعد النحوية في أبواب ؛ التذكير، والتأنيث، والمجرد، والمزيد، ووزن الفعل الثلاثي.
وعلى قدر استهجان القاريء مما نقول، عظم استهجان المجمع نفسه أضعافا مضاعفة، ما أدى إلى رفض المقترح وإهماله، ثم الهجوم على صاحبه هجومًا شديدًا، كذلك الرد عليه من قبل عدد من العلماء الكبار ، حيث قاموا بتفنيد شبهه، ونقض مزاعمه؛ مثل شيخ الأزهر محمد الخضر حسين، وإبراهيم حمروش، حيث ناقشا مزاعمه ، وبينا خطورة اقتراحه في إصلاح اللغة. ثم جاء من بعدهم من العلماء من بيَّن أخطاءه، وأظهر عيوبه؛ مثل محمود شاكر، وزكي مبارك، والسباعي، وغيرهم.
ألف أحمد أمين بعد ذلك كتاب ” زعماء الإصلاح في العصر الحديث”، عام (1948) تعرض فيه للحديث عن عدد من الأدباء والمفكرين العرب والمسلمين والذين كان لهم دور كبير وبارز في إثراء الحركة الفكرية والأدبية الإسلامية في فترة العصر الحديث، والتي تمتد من بداية القرن الثامن عشر ولغاية نهاية القرن التاسع عشر، وقد هاجم فيه أحمد أمين التعليم في جامع الزيتونة، وجامع الأزهر، قال: “… جامع الزيتونة، صورة مصغرة من الأزهر ، تقرأ فيه علوم الدين؛ من تفسير وحديث وفقه وعقائد، وعلوم اللغة؛ ..في كتب مقررة لها متون وشروح وحواشٍ، ويقضى الوقت في تفهم تعبيراتهم، وإيراد الاعتراضات والإجابة عنها، فالعلم شكل علم لا علم، والنتاج جدل لا حقائق، والناجح في الامتحان الذي يستحق أن يكون عالمًاً: أقدرهم على الجدل، وحفظ المصطلحات الشكلية، أما الجميع، فسواء في عدم التحصيل إذا مسوا الحياة الخارجية، فالمناقشة في أن شرب الدخان حلال أو حرام، والغيبة أشد حرمة أم سماع الآلات الموسيقية، وخيال الظل تجوز رؤيته أو لا تجوز”.
ولم يكتف أحمد أمين بهذا؛ بل كتب مجموعة مقالات في مجلة “الثقافة” تحت عنوان “جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي”، ردد فيها آراء المستشرقين ودعاة التغريب، مثل قوله: ” إن الأدب العربي لا يصلح لتربية الأذواق في الجيل الجديد”.
وقد سمى زكي مبارك هذا القول بالفتنة الجديدة، فإذا عجز تراثنا عن ذلك، فإلى أي تراث نتجه!
وليس سرًا أن نقول أن أحمد أمين كان معجبًا ومتأثرًا جدًا بالثقافة الانجليزية، ففي كتابه “حياتي” يطنب في الحديث عن الشخصيات التي أثرت في نفسه حتى اكتملت له شخصية ” الفتى المثقف “، فجمع إلى صورة أبيه في هذه الناحية صور كبار الأساتذة وخاصة سيدتين إنجليزيتين، كان لكل واحدة منهما أثر في نفسيته وشخصيته!
وقد وقف له زكي مبارك موقف الدفاع عن اللغة والتراث. قال زكي مبارك -رحمه الله- :” أحمد أمين الذي كف شره عن الأفراد وجه شره إلى التاريخ، فهو يدرس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولا رفق ولو تركناه شهرين اثنين يؤرخ الأدب على هواه لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين”.
وأضاف زكي مبارك :” إن أحمد أمين شغل نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم “لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال”.
وقد كشف زكي مبارك صديقُه ومعاصرُه مرجعيةَ أحمد أمين الثقافية فقال:” وهذه الفتنة ليست من مخترعات أحمد أمين فقد نجمت قرونها منذ أكثر من خمسين سنة حين أراد المستعمرون والمبشرون أن يوهموا أبناء الأمم العربية بأن الصلة بين ماضيهم وحاضرهم لم يبق لها مكان، وأن المصلحة تقتضي بأن يوضع الأدب القديم في المتاحف وألا يدرسه غير المختصين على نحو ما يصنع الأوروبيون في الآداب اليونانية واللاتينية ثم تقبل كل أمة على لغتها المحلية فتجعلها لغة التخاطب والتأليف، وبذلك تكون اللغة الفصيحة أما واحدة للغات الشعوب العربية. كما صارت اللاتينية أما واحدة للغات الشعوب اللاتينية. وقد صرح بذلك المستشرق ماسينيون في خطبة ألقاها في بيروت سنة 1931 ونقدتها يومذاك بمقال أرسلته إلى البلاغ من باريس.
جناية! !
قال الأستاذ محمود شاكر: “والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي، وحقر الشعر الجاهلي، ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا. …لعلمي -بالاستنتاج- أن الأستاذ ليس أديبًا ناقدًا، والناقد أديب مضاعَف، وقدرته على الأدب أكبر من قدرة الأديب المحض. وقد أحببت أن أقف على كلمة في مقالة الأستاذ أحمد أمين “رحلة” تدلك على أن رأي الأستاذ في الأدب العربي والشعر الجاهلي رأي لا يؤخذ به، فقد قال: “وهاهم أولاء رفقة كأنّ أخلاقهم سكبتْ من الذهب المُصفَّى، وكأن شمائلهم عصرت من قطر المزن” وهي جملة لا ينطلق بها أديب متمكن البتة، فما ظنك بأديب ناقد، وأنا لا أعرف كيف يعصر قطر المزن (أي الماء)، وهو لا يمكن أن يُعصر. ونحن لا نشك في أن الذنب ليس للأستاذ الجليل، وإلا فهو ذنب الشيخ اليازجي صاحب “نجعة الرائد، وشرعة الوارد، في المترادف والمتوارد”.
ولعل أخطر ما عرف به أحمد أمين أنه نقل كثيرًا من الشبهات عن السنة النبوية في كتابيه ” فجر الإسلام ” و ” ضُحَاهُ “، ويرجع كل ما قاله أحمد امين إلى ما قاله قبله المستشرق “جولتسيهر”، و قاله جورجي زيدان في كتابه ” تاريخ التمدن الإسلام “، وإبراهيم اليازجي في” حضارة الإسلام في السلام ” وفيليب حتي في ” تاريخ العرب المطول “، و”بروكلمان” في ” تاريخ الشعوب الإسلامية ” و”كريمر” في كتابه ” الحضارة الإسلامية “.
وقد نفرقت هذه الشبهات بكثرة في “دائرة المعارف الإسلامية “.
ولا ريب أَنَّ المؤلفات التي تقدم ذكرها شُحنت بأهواء الاستشراق والمستشرقين، ينتقصون بها السُنَّة النبوية، ويهدمون من جناب الشريعة والقرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ريب أَنَّ دعوتهم إلى الاكتفاء بالقرآن عمل خطير، هو محاولة لبتر الصلة بين النص النظري والتطبيق العملي ، وهو أخطر الجوانب وأهمها: هذا التطبيق المتمثل في “السيرة النبوية” الذي طبق فيه المصطفى القرآن بشكل عملي.
وقد تلقف أحمد أمين كل ذلك دون أن يعزوه إلى صاحبه ووضعه في كتبه على أنه صاحبه وابن بجدته، وَأَبُو عذرته، على أن عددا كبيرا من العلماء قد تعقب شُبهه وأغلاطه في مباحث وكتب خاصة.
قال الأستاذ الكبير محمد محمد حسين (ت ١٤٠٢هـ) -رحمه الله- في كتابه القيم “حصوننا مهددة من الداخل” (ص100) :” اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية ، هي اللجنة التي كان يشرف عليها أحمد أمين، هذه اللجنة كانت – ولا تزال – تنظر بغير عين العرب، وتعمل بغير عقل العرب، وتهدف إلى غير أهداف العرب. إنها لا تزال كما كانت يوم أنشأها الذين كانوا يحرصون على أن يكون العرب ذيلًا لدول الاستعباد الغربي، لا يرون الأشياء إلا كما يراها الغربي، ولا يتذوقونها إلا كما يتذوقها، ولا يقدِّرونها إلا كما يقدرها، إنها لا تزال تعمل على ما يسميه دهاقنة الاستعباد الغربي (Westernization) أي (التغريب). ويُقصَد به طبع العرب والمسلمين والشرقيين عامة بطابع الحضارة الغربية والثقافة الغربية، مما يساعد على إيجاد روابط من الود والتفاهم بين الحمار وراكبه، وهي روابط تفيد الراكب دائمًا ولا تفيد الحمار! وذلك هو ما تهدف إليه كل الجماعات التي من نوع (أصدقاء الشرق الأوسط) الآن، أو (الصداقة الانجليزية المصرية) و (الصداقة الفرنسية) سابقاً، وهذا الذي يسميه الاستعباد الغربي (تغريباً) هو ما يسميه سماسرة ذلك الاستعباد وصنائعه (تطويراً). وهو ما يعنونه حين يتكلمون عن (بناء المجتمع من جديد). فالذين يتكلمون عن بناء المجتمع من جديد، أو بناء المجتمع الجديد، يعرفون أن مشروعهم هذا يشتمل على خطوتين: الخطوة الأولى هي هدم (القديم) والخطوة الثانية هي بناء ما يتوهمونه من (الجديد). وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا علي بنياننا من القواعد، بما يتضمنه من دين وتقاليد وفنون وآداب، ولكنهم سوف يعجزون عن البناء، سيهدمون مجتمعنا ثم يتركونه وسط أنقاض نظامه القديم في فوضى لا سكن فيها ولا قرار.
ختاما:
فلا يعرف الرجل مثل أهل بيته وذويه، يقول عنه ولده جلال في مذكراته (ص 303 – 304): (في كتاب “حياتي” وصفَ أبي البيت الذي نشأ فيه بقوله: إنك إذا فتحت بابه شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية! أما أنا فلا أستطيع بالمرة أن أقول إن هذا الوصف ينطبق على البيت الذي نشأت فيه. فأبي على الرغم من نشأته هذه، وشدة تدين أبيه وأمه، ونوع التعليم الذي تلقاه في صباه وشبابه، ورغم أن أهم كتاباته كانت تدور حول الإسلام، لم يكن متديناً بمعظم المعاني الشائعة اليوم. إني لا أتذكر مثلاً أني رأيت أبي وهو يصلي، ولا أذكر أني رأيته وهو يقرأ في المصحف. إني أتذكر اعتذاره عن الصوم بسبب مرض أو آخر كان يفرض عليه نظاماً معيناً في الأكل، أو بسبب التدخين، ولكني لا أتذكره وهو ينتظر حلول المغرب ليتناول إفطاره في رمضان .. إن هذا لا ينفي ما كان يتحلى به أبي من صفات قريبة من التصوف، كما لا يتعارض مع ما أتذكره من أقواله الكثيرة التي تنم عن إيمان عميق بالله، من الذكريات الملتصقة بقوة في ذهني ركوبنا معه في قارب شراعي في النيل في إحدى ليالي الصيف في رأس البر، وكانت هي ليلة القدر، وإذا به يطلب منا أن نردد وراءه دعاء طويلاً إلى الله، يقول منه جملة، ونقولها بعده، ثم ينتقل إلى ما بعدها. كان هذا في أوائل الأربعينات، فلابد أني كنت في السابعة أو الثامنة، وأنا أتذكر هذا الآن مرتبطاً بشعور من السعادة لابد أن كان من أسبابه ما يشعر به صبي في مثل هذه السن عندما يرى العائلة كلها تقوم بعمل مشترك، ويسيطر عليها أثناءه شعور بالمحبة والوئام. وعلى أي حال فإني لا يخامرني أي شك في أن أبي كان يعلق على أخلاق المسلم أهمية أكبر مما يعلقه على شعائر الدين. لدي ألف دليل على هذا من أقواله وتصرفاته وكتاباته). ثم يقول – بعد أن تحدث عن تأثر أمه بوالده!: (كيف يمكن، والحال كذلك، أن تفوح رائحة الدين من بيتنا كما كان الحال في البيت الذي نشأ فيه أبي؟ بل الراجح أن هذا الموقف من جانب أبي وأمي قد ترك فينا كلنا، نحن الإخوة، الذكور والإناث، أثراً دائماً لم تمحه الأيام. فلا أذكر أن أحداً منا نحن الإخوة قد واظب على أداء شعائر الدين لفترة طويلة من حياته. كان هناك الميل المعروف إلى التدين في فترة من فترات الصبا وبداية الشباب، وهو ما أذكر أنه سيطر عليّ سنة أو سنتين، كما أذكر نفس الشيء فيما يتعلق بإخوتي الذين وعيت هذه الفترة من حياتهم، أما بقية الإخوة فلا يقترن أي منهم في ذهني بأي مشاعر دينية قوية أو حرص على أداء شعائر الدين بانتظام).
رائع جدا بارك الله بكم أستاذنا حبيبي
السلام عليكم دكنور أحمد
أرجو العلم أن حماية اللغة العربية الفصحى واجب علينا جميعا ولذلك برأيي نريد منك أكثر بهذا المجال كما ونوعا وأفاقا.
أبشر أستاذنا