مقالات
بين العامية والفصحى (14) د. أحمد الزبيدي – الإمارات
(علي عبد الرازق – 1888 – 1966 م)
قال خير الدين الزِّركلي في كتابه “الأعلام” عن علي عبد الرازق : ” باحث، من أعضاء مجمع اللغة العربية بمصر. ولد في المنيا، وتعلم بالأزهر، ثم بأكسفورد. وأصدر كتاب ” الإسلام وأصول الحكم” سنة 1925 فأغضب ملك مصر وسحبت منه شهادة الأزهر، وانصرف الى المحاماة، وانتخب عضوًا في مجلس النواب، فمجلس الشيوخ، وعين وزيرًا للأوقاف.
الظرف السياسي والسياق التاريخي للكتاب ” الإسلام وأصول الحكم”:
بعد الحرب العالمية الأولى عام 1914م؛ وضعت بريطانيا مصر تحت حمايتها؛ منهية بذلك عصر السيادة العثمانية عليها، ثم لم تلبث أن وعدت الشريف حسين في الحجاز ومنته بالاعتراف به حاكما عربيا ، و شجعته ودعمته على الثورة ضد الخلافة الإسلامية، فبعث بالثورة العربية الكبرى، لتخرج البلاد العربية من سلطان الخلافة ، وتسقط في جحيم الاحتلال الأوروبي.
في هذه الفتن المظلمة برز اسم الشيخ علي عبدالرازق الطالب الذي ابتعث من قبل للدراسة في بريطانيا، بجامعة أكسفورد عام (1912م) فلبث فيها إلى عام 1915م ، ليعود إلى مصر بسبب اشتعال الحرب العالمية الأولى.
مثلت هذه الأحداث كلها في حياة الشيخ علي عبدالرازق منزلقًا خطيرًا وربطت اسمه بهذه الحقبة الزمنية الحاسمة من تاريخ أمتنا، على أن الرجل لم يعرف عن التأليف، فقد لبث وأهله عمرًا في كنف حزب “الأحرار الدستوريون” ، مما أتيح له أن يعمل وزيرًا للأوقاف في حكومة النقراشي وحكومة إبراهيم عبد الهادي، وقد عُرف بنفاقه للمَلِكَيْن؛ فؤاد وفاروق.
شهدت مصر في مطلع هذا القرن معارك فكرية حامية الوطيس؛ في ظل الصراع الحضاري ضد الاستعمار الأوروبي، بسبب كتاب “الشعر الجاهلي” لطه حسين، وتحرير المرأة ” لقاسم أمين، و”الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق، حيث نادى الأخير بتجاوز نظام الخلافة الإسلامية؛ واصفًا إياه بالعتيق الذي استكان اليه المسلمون، ولم يظهر الكتاب إلا عقب الإعلان عن سقوط الخلافة الإسلامية، وبعد ظهور دعوات قوية في عدد من البلاد الإسلامية لإعادة الخلافة والتحلق حولها .
وقد رأى بعض الباحثين في الكتاب؛ فكرة مشاكسة للأفكار النمطية السائدة، مما جعل صاحبها متهما بالتغريب والاستشراق. ورأى آخرون أن الكتاب أصاب قليلًا وأخطأ كثيرًا. ورأى البعض أن الكتاب ليس أكثر من شهادة زور يراد إلصاقها بالأزهر والمؤسسة الدينية.
وعلى كل حال فإن الكتاب كان وما زال يمثل الوثيقة التي رفعها العلمانيون -ومن ورائهم الانجليز- ضد الخلافة الإسلامية، ليتسنى لهم قتالهم في معزل عن الشعوب الإسلامية تحت لواء الخلافة التي تحتم أن تكون الأمة جسدًا واحدًا.
بداية ظهور العلمانية في بلاد الإسلام
ذكر الأستاذ عبد الله عبد الرحمن في كتابه: “الرجل الصنم” كمال أتاتورك (506_507) _ وهو كتاب نفيس، قال فيه: “لا تكاد تعثر في الأزمنة الماضية على مسلم يشن الحرب على الإسلام، ويتنكر له خصوصاً في مجال النظام السياسي، وزمن هذه الحرب -(يقصدُ الحرب على الإسلام، والنظام السياسي)- حديث جدًاً لا يزيد على قرنين من الزمان؛ فقد بدأ مع بداية انتشار الفكر العلماني الذي دعت إليه الثورة الفرنسية عام 1789م. ومن ذلك الحين،…بدأ ذلك الفكر يسري إلى بلاد المسلمين، وبدأ التوجه العلماني اللاديني في بعض الدوائر يؤتي ثماره المرة، وينتج نتائجه السيئة في العديد من مجالات الحياة، ويمهد لقيام العلمانية.
ولقد كانت قبل تظهر بعض الأصوات؛ تنادي بالفكرة العلمانية غير أنها كانت أصوات خافتة متداخلة مع كلام كثير قد لا يفطن لها الكثيرون بحيث يمرون عليها مرور الكرام! بل ربما عدُّوها من سقطات الكُتاب والمتكلمين ، دون أن يتبين لهم ما وراءها، وظل الحال على هذا المنوال حينًا من الدهر حتى أفصحت العلمانية_ في المجال السياسي _ عن نفسها إفصاحًاً كاملًا، وذلك على المستويين العملي، والنظري.
أما المستوى العملي؛ فيتمثل فيما قام به مصطفى كمال أتاتورك من إلغاء الخلافة الإسلامية، وإقامة النظام السياسي العلماني على أنقاضها، وأما على المستوى النظري؛ فيتمثل فيما أقدمت عليه العلمانية من تقديم فكرتها أو نظريتها السياسية في عزل الدين عن الدولة، وذلك في أول كتابة من نوعها في ديار المسلمين على يد شيخ أزهري، وقاضٍ شرعي وهو علي عبدالرازق. وهذا الصنيع كان إيذاناً لإلغاء الخلافة على المستوى الفكري النظري. صنيع أتاتورك في قيام العلمانية، وإلغاء الخلافة.
-
كتاب “الإسلام وأصول الحكم”
تكمن خطورة هذا الكتاب كونه كتابًا كاملًا يعرض منهجًا كليًا في معرفة الإسلام، وعلاقته بالحكم، ومما يلفت النظر أن الحكومة الكمالية حين ألغت الخلافة العثمانية سنة 1924م – أصدر المجلس الوطني التركي رسالة بين فيها وجهة نظره في ذلك! إلا أن الرأي العام في العالم الإسلامي قابله بالاستياء.
ونظرة واحدة إلى الرسالة التي أصدرها المجلس التركي “الإسلام وسلطة الأمة” أو “الخلافة وسلطة الأمة”، وكتاب علي عبدالرازق الذي صدر بعقبه سنة 1925م تريك تشابهًا كبيرًا بين اسمي الكتاب ومضمونهما ، إلا أن الكتاب الأول لم يبالغ في القدح في علاقة الإسلام بالسياسة، معشار ما قد فعله علي عبدالرازق في كتابه !
جاء في كتاب “الإسلام وسلطة الأمة” ص5 ما نصه: إن الخلافة – دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وإنها من مصلحة الأمة نفسها مباشرة، ولم يرد بيان صريح في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية في كيفية نصب الخليفة وتعيينه، وشروط الخلافة ما هي …..
وجاء في كتاب علي عبد الرازق ص16: “إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام: 38] ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة، أو الخلافة. إن في ذلك لمجالاً للمقال! ليس القرآن وحده الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن – أيضاً – وقد تركتها ولم تتعرض لها ..
وفي رسالة المجلس ص4: إن الفرقة المسماة بالخارجية تنكر وجوب الخلافة، وتقول إن أمر نصب الخليفة وتعيينه، ليس واجبًا على الأمة الإسلامية، بل هو جائز، ووجوده وعدم وجوده سيان ..
وفي كتاب علي عبدالرازق (ص33) : “فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلاً، وكذلك قال الأصم من المعتزلة، وقال غيرهم – أيضاً – كما سبقت الإشارة إليه.
وحسبنا في هذا المقام نقضًا لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: “إنهم شواذ”، وهذا يدل على أن الكتابين كتبا بقلم واحد، أو صدرا عن فكر واحد! غير أن عبد الرزاق زاد عليه إساءة في الأدب في جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق أصحابه الكبار، وهذا الذي حمل الأزهر على مقاضاته والحكم عليه بإخراجه من زمرة العلماء، وفصله من القضاء الشرعي، ومحو اسمه من سجلات الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية.
أما حيثيات الحكم، فهي: أنه جعل الشريعة الإسلامية، شريعة روحية محضة، لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.
2 – زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي ” كان في سبيل الملك، لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين”، وجوَّز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم، ونحو ذلك في سبيل الملك – أيضًا، وجعل كل ذلك خارجًا عن حدود رسالة النبي ” فلم ينزل به وحي، ولم يأمر به الله – تعالى . قال : “إنما كانت ولاية محمد ” على المؤمنين ولاية رسالة غير مشوبة بشيء من الحكم”.
وبكلامه هذا جرد النبي ” من الحكم، وصادم صريح القرآن الكريم، قال الله – تعالى-: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] . وزعم أن حكومة أبي بكر، والخلفاء الراشدين من بعده، رضي الله عنهم، كانت لا دينية، علما بان أبا بكر بايعه جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين على الخلافة والقيام بأمر الدين بعد نبيها محمد “.
ولا غرو أن وصم علي عبد الرازق حكومة أبي بكر بأنها لا دينية، لم يجرؤ على مثله مسلم؛ ولكن الذي يجرؤ على مقام النبوة، يسهل عليه أن يطعن في مقام الصدِّيق وغيره من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
قال د. م. محمد حسين (الاتجاهات الوطنية- ـ 2) “إن عبد الرازق تأثر في مراجعه وآرائه بالمستشرقين وبالكتاب الذي أصدرته الحكومة التركية لتبرر به الغاء الخلافة وهو (الخلافة وسلطة الأمة) الذي ترجمه عبد الغنى سنى عن التركية وقد وضعته لجنة من كتاب الترك بإشارة من الكماليين “.
وما أن ظهر كتاب علي عبد الرازق حتى ظهرت الردود تلو الردود؛ فقام بالرد عليه محمد رشيد رضا صاحب مجلة “المنار”، وكذلك الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وكذلك الأستاذ أمين الرافعي، وقد أفتى بعض كبار العلماء من أمثال الشيخ محمد شاكر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت، والسيد محمد رشيد رضا بِرِدَّة علي عبدالرازق مؤلف الكتاب المذكور.
ورد عليه أيضًا الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، وألَّف الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في وقته “حقيقة الإسلام وأصول الحكم”، كما ألَّف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتاب “نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم”.
-
وأخيرا: فقد قابلت الدوائر الاستعمارية والمراكز التبشيرية المسيحية الكتاب بالترحيب والتصفيق، وشجعت نشر مثل هذه الآراء الشاذة ، التي لا تخدم إلا أهداف الاستعمار في السيطرة على الشعوب الإسلامية، وإذلالها إلى الأبد.
وهذا ما يفسر تعدد طبعاته التي أربت على 35 طبعة منذ وفاة المؤلف إلى عام 2016م.
* وفي حديثه مع مراسل صحيفة (إجبسيان) سأله المراسل: هل يمكن أن نعتبرك زعيمًا للمدرسة؟
فأجاب: “لست أعرف ماذا تعني بالمدرسة؟ فإن كنت تريد بهذا أن لي أنصارًا؛ يسرني أن أصرح لك أن الكثيرين يرون رأيي، لا في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي بأسره”. وقد وصلتني رسائل التأييد من جميع أقطار العالم التي نفذ إليها الإسلام. ولا ريب أني رغم الحكم -يقصد حكم الأزهر- لا أزال مستمرًا في آرائي وفي نشرها، لأن الحكم لا يعدل طريقة تفكيري. وسأسعى إلى ذلك بكل الوسائل الممكنة كتأليف كتب جديدة، ومقالات في الصحف، ومحاضرات، وأحاديث”.
وقد صدق الرجل، فقد ظل ساعيًا في نشر آرائه وأفكاره، فما أن ظهر كتاب “نظيرة زين الدين” بعنوان: «السفور والحجاب»، وهو أول كتاب يتحدث عن تحرير المرأة في الشام سنة 1347هـ أي بعد وفاة فاسم أمين بعشرين سنة – حتى بادر علي عبد الرازق إلى تقريظه ومدحه والثناء عليه! وكان مما قال: “إني لأحسب مصر قد اجتازت -بحمد الله- طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريين إلا المتخلفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور هو من الدين أم لا؟ ومن العقل أم لا؟ ومن ضروريات الحياة الحديثة أم لا؟ بل نجدهم حتى الكثير من الرجعيين المحجبين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدينة عنها”.
ولا عجب في ذلك؛ فبيت عبدالرازق كان في ذلك الوقت من البيوت العريقة الضاربة قدمها في خدمة الاستعمار الانجليزي؛ فحزب الأمة أنشاه حسن عبدالرازق سنة 1908 لمحاربة الحركة الوطنية، وبعد سنة 1919م انضم آل عبدالرازق إلى حزب الأحرار الدستوريين الذي كان يعمل مع الإنجليز .. وسواء كان الكتاب المنسوب لعلي عبد الرازق من تأليفه هو – كما هو مدون على غلاف الكتاب – أو كان من تأليف بعض المستشرقين؛ كما يذهب إلى ذلك آخرون، أو كان من تأليف طه حسين، -كما يرجح كاتب المقال-، إلا أن الكتاب استطاع أن يحدث هزة فكرية، وضجة إعلامية، مثل تلك التي أحدثها كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وتحرير المرأة لقاسم أمين.
ولله در الشاعر:
أما الديار فإنها كديارهم
وأرى رجال الحي غير رجاله
شهادة الشيخ علي الطنطاوي
-
قال الشيخ علي الطنطاوي”ذكريات” (ج3 ص7) :” ألّف كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وقد أخطأ فيه وما أصاب، وأساء وما أحسن، وجار وما عدل، واستحقّ كل ما قيل عنه وما وقع عليه. وإن كنت أشهد له، ولأخيه الشيخ مصطفى الذي عرفته أستاذًا جليلًا ولم أقرأ عليه، وشيخًا للأزهر وقد راجعته مرّات في بعض شؤون الطلبة السوريين في الأزهر، فما رأيت منه (ومن أخيه أيضاً) إلاّ خلقًا كريمًا، ونبل نفس، ونظافة لسان، وأخلاق عالِم.