
د. داود سليمان
نواصل في هذه الحلقة تأملاتنا في توجيهات الآيات القرآنية وإرشاداتها من سورة الطارق، وذلك بعرض ما استشرفناه من مجموعة آيات القسم: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (الطَّارِق: ١)؛ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (الطَّارِق: ٢)؛ النَّجْمُ الثَّاقِبُ (الطَّارِق: ٣)؛ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (الطَّارِق: ٤).
المتصفح لمعظم التفاسير التي يجدها المرء في وسائل التواصل الاجتماعي (لغالبية المفسرين القدماء، والحديثين) التي تتناول آيات سورة الطارق، يجد أنها تركز على تفسير معاني الكلمات. على أن أحد مفسري آيات القرآن العظيم قد أمكنه استشراف ما توجه إليه وترشد به الآيات الكريمة من إرشادات ومفاهيم علمية موضوعية؛ حيث أشار إلى أن الصفة التي أعطيت لذلك النجم، قد ارتبطت بظاهرة تنقله بين السماوات (الأفلاك السماوية) هبوطاً وصعوداً محدثاً الطَّرق، وسطوع الضياء “التَّوهُّج”. هذا التصور لكيفية حدوث الطرق (الصوت)، والضياء (التوهج) نتيجة تنقل ذلك النجم صعوداً وهبوطاً بين الأفلاك السماوية لابد من أن يقود المرء المتأمل بروية في هذا الحدث إلى استحضار ما يحدث في الجسم المادي عندما يتعرض لتأثير الطاقة (الحرارية على سبيل المثال) مما يؤدي إلى حدوث ظاهرة الإشعاع الضوئي (الفلوروسنت، أو الفوسفوروسنت) الذي ينتج عن تنقل الإلكترونات (الوحدات البنائية سالبة الشحنة لذرات المادة) في الأغلفة الذرية (الرئيسة، والفرعية) ذات الهياكل البنائية المتنوعة، في حركته الدورانية (الموجية) الدائمة بين الصعود والهبوط، بما يؤدي إلى بقاء الإلكترونات في المواقع الهيكلية المحددة لها بدقة، لا تحيد عنها، حيث تتحكم في حركتها، وبعدها أو قربها من نواة الذرة قوتان، هما: قوة الطرد المركزي الناتجة عن حركتها الدورانية (سباحتها)، وقوة الجذب المغناطيسي نتيجة كونها سالبة الشحنة، وكون نواة الذرة موجبة الشحنة. ولتوضيح هذا الأمر، على المرء أن يتخيل أن الذرة ذات هيئة أقرب ما تكون إلى الهيئة الكروية، حيث تحتفظ في مركزها بالجسيمات موجبة الشحنة الكهربائية (البروتونات)، إضافة إلى جسيمات أخرى متعادلة الشحنة (النيوترونات) ويحيط بمركزها، على أبعادٍ متفاوتة مجالات (أفلاك) غلافية رئيسة، وكل مجال (فلك رئيس) منها مؤلف من أغلفة فرعية (أفلاك فرعية) منتشرة في كافة الاتجاهات المحيطة بالمركز؛ وبداخل تلك الأغلفة الرئيسة، والأغلفة الفرعية تتوزع الإلكترونات (الشحنات السالبة) بحسب سعة كل منها (غلاف رئيس، أو غلاف فرعي) بطريقة منتظمة وفقاً لطاقة احتمال (تَشَبُّع) كل غلاف رئيس، أو فرعي. وهذه الإلكترونات ليست في حالة سكون (ثابتة دون حراك)، بل إنها في حالة حركة مستمرة، كل منها في إطار الغلاف (الفلك الرئيس أو الفرعي) الخاص به. وهذه الحركة المستمرة للإلكترونيات حول نواة الذرة تتحكم فيها قوتان متماثلتان، ولكنهما متعاكستي الاتجاه، وذلك للاحتفاظ بتعادل فعل الشحنات السالبة وفعل نواة الذرة موجبة الشحنة، وبالتالي الإبقاء على كينونة الذرة متعادلة، وهاتان القوتان هما:-
أ – قوة الطرد المركزية الناتجة عن حركة دوران (سباحة) الشحنات السالبة في أفلاكها حول النواة؛
ب – قوة جذب النواة (نواة الذرة ذات الشحنة الموجبة) للشحنات السالبة (الإلكترونات).
هاتان القوتان هما بمثابة الأعمدة الحافظة لبقاء بناء الذرة دون اندثارها. وعندما تتعرض المواد للتأثيرات الخارجية (ارتفاع درجة الحرارة، أو انخفاضها، أو ارتفاع الضغط، أو انخفاضه، أو التعرض لصدمات كهربائية، إلخ) فإن تلك التأثيرات تحدث تغييراً في وضعية إلكترونات الذرة (بحسب كمية التغيير في الطاقة الوضية لها) حول نواتها، ما يؤدي إلى انتقال جزءٍ من تلك الإلكترونات، بطريقة فجائية، من موضعها الأصلي إلى موضع جديد ضمن الإطار العام للذرة؛ وبانتهاء فعل التأثير الخارجي، تفقد الإلكترونات كمية الطاقة التي أثرت على الذرة وأدت إلى تغيير موقع الإلكترونات، ومن ثم تعود الإلكترونات بطريقة فجائية أيضاً إلى وضعها السابق. هذه العملية تكون دائماً مصحوبة بامتصاص كمية الطاقة التي أثرت على الذرة وأدت إلى إثارتها، ومن ثَمَّ التَّخلص منها (من كمية الطاقة التي أدت لإثارة الإلكترونات) على هيئة إشعاع ضوئي، مصحوباً بإطلاق صوت، حيث تتناسب شدة كلٍ من الضوء، والصوت مع كمية الطاقة المنطلقة. هذه الحقائق العلمية التي بإمكان المرء الاستفادة منها، لإسقاطها على آيات القسم: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (الطَّارِق: ١)؛ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (الطَّارِق: ٢)؛ النَّجْمُ الثَّاقِبُ (الطَّارِق: ٣)؛ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (الطَّارِق: ٤)، بما يعينه على استشراف ما توجه به وترشد إليه من حقائق علمية موضوعية، تؤدي به إلى اعتبار أن السماء تمثل المواقع التي توجد بها النجوم والكواكب السيارة المنتشرة في بناء الكون، وفق إرادة الخالق الله سبحانه وتعالى، في أفلاك رئيسة وأخرى فرعية منتظمة؛ كما هو الحال بالنسبة للذرة. وبالتالي فإن الطارق، والثاقب هما صفتان لظاهرتي الصوت، والوهج الضوئي، اللتان تصدران عن حركة ذلك النجم أثناء تردده بين الصعود من مستوى طاقة محدد إلى مستوى طاقة أكبر، ثم عودته إلى الوضع السابق باستمرار. فإذا غير كوكب ما (كالنجم الثاقب مثلاً) موقعه بانتقاله من مستوى طاقة ما، إلى مستوى طاقة جديد (نتيجة اكتساب، أو فقدان كمية من الطاقة) فلابد له من إحداث وهج ضوئي، وإصدار صوت معين يتناسب في شدته طردياً مع كمية التَّغيُّر في كمية الطاقة التي أثرت عليه. فالبرق (على سبيل المثال) هو عبارة عن الوهج الضوئي الذي يحدث نتيجة التفريغ الكهربائي لشحنات الغيوم، وما يرافقه من صوت الرعد “يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة: ٢٠)”. وهذا التصور لحركة الإلكترونات حول نواة الذَّرة، يقودنا إلى الاعتقاد بأن ظاهرة النجم الثاقب الذي يصدر وهجًا ضوئيًا مصحوبًا بإصدار ذبذبات صوتية، هو نتيجة للتغير الذي يحدث بانتظام في وضعيته (نتيجة اكتسابه مزيدًا من الطاقة، ثم فقدانه لما اكتسبه منها)، ضمن نطاق الأفلاك الفرعية، وفي إطار الأفلاك الرئيسة، بالموقع المحدد له بدقة من قبل خالق الكون بمحتوياته، الله سبحانه وتعالى، وهذا التصور يقود المرء إلى استنتاج ما يلي:-
١ – أن البناء الكلي للسماوات هو أشبه ما يكون بالهيكل الكروي، وأن اتساعه (تمدد الكون) أو انقباضه (تناقصه، أو تقلصه) يحدث في كافة الاتجاهات الكونية.
٢ – أن الكواكب والنجوم في حركة دائمة، وهي في أثناء ذلك محكومة بتأثير قوتين رئيستين تحفظان بقائها في حالة اتزان كافة القوى المؤثرة عليها، في مواقعها المحددة بدقة من قبل خالقها الله سبحانه وتعالى، بما يضمن بقاء الكون بأكمله بالكيفية التي أوجده الله سبحانه وتعالى عليها منذ أن خلقه ابتداءً، إلى أن يشاء الله بتغييره. وذلك تماماً كما القوتان اللتان تحفظان بناء أصغر مكونات الكون؛ ألا وهي ذرة العنصر المادي، في حالة اتزان بين ما تحدثه حركة الإلكترونات حول نواتها من قوة الطرد، وما ينشأ بين إلكتروناتها السالبة، وبروتوناتها الموجبة من قوة الجذب. وهاتان القوتان تحفظان بقاء الذرة دون اندثار، طالما أنها لم تتعرض لتأثير العوامل المختلفة التي قد تؤثر في حالتها المستقرة.
٣- هذا التصور يمكننا إسقاطه على المرء؛ فكل امرئٍ عليه حافظ من خالقه الذي أوجده، ليقيه من الهبوط أو السقوط من مستوى التقوى الذي عليه التمسك به والبقاء ضمن إطاره، بأعماله وتصرفاته القويمة، دون الانزلاق في متاهات تفسد عليه نمط حياته المستقرة.
٤ – هذه الاستنتاجات تؤدي بالمرء إلى إستشراف عظمة بناء آيات القسم بالصورة التي جاءت بها من لدن حكيم عليم، الله سبحانه وتعالى.
وللحديث بقية في مجال استشراف توجيهات آيات سورة “الطارق” وإرشاداتها بصورة علمية موضوعية، نتحدث فيها عن تأملاتنا فيما تشير إليه وترشد به الآيات: * فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ؛ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ؛ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ؛ * إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ؛ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ؛ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (الطَّارِق:٥ – ١٠).
زر الذهاب إلى الأعلى