احتفى الوحيان؛ القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة “بالعقل” في آيات كثيرة وأحاديث متعددة، ومع أن لفظة “العقل” لم ترد في القرآن الكريم، إلا أن اشتقاقاتها جاءت في عشرات الآيات في موضع المدح والثناء، وفي المقابل نعى القرآن الكريم على الذين يعطلون عقولهم ووصفهم بالأنعام؛{بل هم أضل سبيلا}.
عن وهب بن مُنَبّه أَن لُقْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِابْنِهِ يَا بني اعقل عَن الله عز وَجل، فَإِن أَعقل النَّاس عَن الله عز وَجل أحْسنهم عملا، وَإِن الشَّيْطَان ليفر من الْعَاقِل وَمَا يَسْتَطِيع أَن يكابده يَا بني مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من الْعقل.
عَن مطرف أَنه قَالَ: “مَا أُوتِيَ عبد بعد الْإِيمَان أفضل من الْعقل”، على أن القرآن قد استعمل لفظة العقل بمعان عدة؛ مثل الفهم والإدراك، والتمييز بين الخير والشر، وعقل النفس عن الرذائل والخطيئات، ولم يرض القرآن بذلك حتى علم المسلمين طريقة تربية العقل، وتنمية الفكر. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل 78].
قال الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- : “وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي السمع والأبصار والأفئدة…. إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس، وسيدة الحواس هي العين؛ لأنه من الممكن أن تسمع شيئًا من واحدٍ بتجربته هو، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك، ولذلك يقال: «ليس مَن رأى كمن سمع» .
علامة العاقل
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: “أَلا أنبئكم بعلامة الْعَاقِل؛ يتواضع لمن فَوْقه، وَلَا يزدري من دونه، يمسك الْفضل من منْطقَه، يخالق النَّاس بأخلاقهم، ويحتجر الْإِيمَان فِي مَا بَينه وَبَين ربه عز وَجل، فَهُوَ يمشي فِي الدُّنْيَا بالتقية والكتمان”.
وقال لُقْمَان لِابْنِهِ: “يَا بني مَا يتم عقل امْرِئ حَتَّى يكون فِيهِ عشر خِصَال: الْكبر مِنْهُ مَأْمُون، والرشد فِيهِ مأمول، يُصِيب من الدُّنْيَا الْقُوت، وَفضل مَاله مبذول، التَّوَاضُع أحب إِلَيْهِ من الشّرف، والذل أحب إِلَيْهِ من الْعِزّ، لَا يسأم من طلب الْفِقْه طول دهره، وَلَا يتبرم من طلب الْحَوَائِج من قبله، يستكثر قَلِيل الْمَعْرُوف من غَيره، ويستقل كثير الْمَعْرُوف من نَفسه، والخصلة الْعَاشِرَة الَّتِي بهَا مجده وَأَعْلَى ذكره أَن يرى جَمِيع أهل الدُّنْيَا خيرا مِنْهُ وَأَنه شرهم، وَإِن رأى خيرًا مِنْهُ سره ذَلِك، وَتمنى أَن يلْحق بِهِ وَأَن رأى شرًا مِنْهُ قَالَ لَعَلَّ هَذَا ينجو وَأهْلك أَنا فهنالك حِين اسْتكْمل الْعقل”.
وقال الْأَصْمَعِي: “سَمِعت إبان بن جرير يَقُول: قَالَ الملهب بن أبي صفرَة يُعجبنِي أَن أرى عقل الْكَرِيم زَائِدًا على لِسَانه، وَلَا يُعجبنِي أَن أرى لِسَانه زَائِدًا على عقله”.
والمتأمل في القرآن يجده قد حفل بطرق متعددة وأساليب متنوعة؛ لتربية العقل وتهذيبه؛ مثل أسلوب القصص، وضرب الأمثال، وطريقة السؤال والجواب، وكثرة التكرار.
مكانة العقل عند ابن الجوزي
حظي العقل عند العلماء المسلمين بمكانة لافتة، فقد عدّهُ الإمام ابن الجوزي أبرز المكونات الأساسية في الشخصية الإسلامية، وهو الذي كرم الإنسان وجعله أفضل المخلوقات، فلا جرمَ أن عني به منذ نعومة أظفاره؛ تغذية وتهذيبا بشتى المعارف والعلوم ، وقد تحدث عن ذلك في رسالته لفتة الكبد- رسالة وجهها لولده يُرَغِّبهُ في طلب العلم، وتربية العقل. قال: “ولي همةٌ عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين وأنا قرين الصبيان الكبار، وقد رُزقت عقلًا وافرًا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ”.
ولشدة نهمه وولوعه بالعلم أنفق ورثته عن أبيه وأنفقها في طلب العلم ونسخ الكتب، ولم يكن ابن الجوزي أول من اهتم بالعقل، فقد شاركه في ذلك الحارث المحاسبي، وأبو حامد الغزالي، غير أنه سبقهما بكتابين؛ “كتاب الأذكياء”، و”كتاب الحمقى والمغفلين”، يشرح فيهما مراده؛ وقد ذكر فيهما قصصًا وأخبارًا تنم عن الذكاء، وأخرى تنم عن الحمق والغفلة والغباء.