مقالات

دراسات قرآنية (10)    د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات

بدع التفاسير في (الكشاف) (ج1)

د. أحمد الزبيدي

قال الإمام السيوطي -رحمه الله- مثنيًا على تفسير الزمخشري (ت 538ه)، في كتابه ” نواهد الأبكار وشواهد الأفكار” (ج1 ص9): “ولما كان كتاب (الكشاف) هو الكامل في هذا الفن- أي: علم المعاني والبيان- بالبيان الشافي اشتهر في الآفاق اشتهار الشمس، وجهر به في محافل المجالس بين الفضلاء من غير همس، واعتنى الأئمة والمحققون بالكتابة عليه، وتسارع العلماء والفضلاء في المناقشة والمنافسة إليه: فمن مميز لاعتزال حاد فيه عن صوب الصواب، ومن مناقش له فيما أتى به من وجوه الإعراب، ومن محش وضّح ونقح، وتمم ويمم، وفسر وقرر، وحبر وقرر، وجال وجاب، واستشكل وأجاب، ومن مخرج لأحاديثه عزا وأسند، وصحح وانتقد، ومن مختصر لخص وأوجز، وكمل ما أعوز”.

وإذا كان ذلك كذلك فالكشاف بالاتفاق من أصول كتب التفسير بلا شقاق، لا يستغني عنه عالم صغير أو كبير، وهو من الكتب المهمة؛ في كشف الضلالات المظلمة، والفتن المدلهمة،وفضح أسرار البلاغة التي نَظّر لها الإمام عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، و(أسرار البلاغة).

وقد طار ذكر هذا الكتاب في الشرق والغرب بلا ارتياب، على حد قول السيوطي، وليس ذلك لأنه أول كتاب كشف سر بلاغة القرآن، وأوضح دقة المعنى التي تفهم من تركيب اللفظ والبيان، بل لأنه صاغ ذلك في قالب أدبي رائع، ومصوغ إنشائي ماتع، لا يتفق لغيره من المفسرين، ولم لا؟! وهو إمام اللغة وسلطان البلاغيين ، وقد عد العلماء (الكشاف) من القسم الثاني من فنون كتب التفسير، ويقصدون بذلك قسم اللغة والبلاغة والإعراب، قال العلامة ابن خلدون (المقدمة) (1/55) :”…ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفنُّ من التفاسير كتابُ (الكشاف) للزمخشريِّ،…إلا أنه من أهل الاعتزال في العقائد “، وقال التاج السبكي/الابن في كتابه (معيد النعم) (ص66):” واعلم أنَّ (الكشاف) كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمامٌ في فنه”، وقد اعتمد عليه كل من جاء بعده من المفسرين، مثل الرازي، وأبو حيان، ، والشوكاني، والطاهر بن عاشور، والألوسي، والقاسمي، ومحمد عبده ، وأخيرًا الشعراوي، وجمع آخرين،  ومع أن الإمام المجدد الفخر الرازي من أكابرهم قدرًا إلا أنه يستشهد به كثيرًا، فقد ذكره (اسم الزمخشري) بالاسم في تفسيره قرابة ال(80) مرة، وذكره بعبارة :”قال صاحب الكشاف” قرابة (800) مرة، فإن كان مصيبا صوّب قوله، وإن كان مخطئا فإنه يستدرك عليه ، وأحيانًا لا يستطيع أن يخفي إعجابه الشديد به بلفتاته البديعة، فتجده يثني عليه في غير ما موضع، قال الرازي (مفاتيح الغيب) (ج27 ص488) ورحم الله صاحب الكشاف فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرًا وشرفا”.

وعلى الرغم من ثناء الرازي وغيره من المفسرين على كتاب الكشاف إلا أنهم في الوقت نفسه نبهوا على خطورة ما فيه من فكر اعتزالي يصعب كشفه على كثير من الناس، وقد يصعب أحيانًا على بعض العلماء، نظرا لبراعة صاحبه في الكلام، وتمكنه من فنون البلاغة والقول، وبعد غوره في التفسير والتأويل، لذا فإن الإمام البُلقيني (ت 805ه) مجدد المئة الثامنة يقول: ” استخرجت من (الكشاف) اعتزالًا بالمناقيش”.

وللإمام ابن المنيِّر (ت 683ه) كتاب كامل سماه (الانتصاف) بين فيه ما تضمنه (الكشاف من الاعتزال)، وناقشه في إعراب بعض الألفاظ فأحسن في الجدال، غير أنه أخذ عليه -رحمه الله- حدة وتيرة الشدة في كلامه؛ فانزلق إلى سب الزمخشري، مقابلة لسبه أهل السنة بمثلها، -غفر الله لهما- ثم جاء بعده الإمام المفسر علم الدين العراقي في كتابه (الإنصاف) ليكون حكمًا عدلًا ومنصفًا بين الزمخشري وابن المنيّر،  وقد أدار العراقي المحاكمات العلمية بين الإمامين الكبيرين بطريقة ممتعة وطريفة وحيادية، ومما يميز (الكشاف) خلوه من الحشو والتطويل والإجحاف، وإيراد الإسرائيليات إلا في النادر القليل، وهو قليل الاستشهاد بالحديث، ويوردها أحيانًا ضعيفة وموضوعة، لاسيما في فضائل السور، وتراه-سامحه الله- في مواضع يكون شديدًا على الأشاعرة أهل السنة ويذكرهم بعبارات الازدراء ويرميهم بالأوصاف المقذعة والهجاء، ويمزج حديثه عنهم بالسخرية والتهكم والاستهزاء.

قال الإمام الذهبي (ميزان الاعتدال): (ج٥ ص٢٠٣) :”محمود بن عمر الزمخشري المفسر النحوي صالح، لكنه داعية إلى الاعتزال أجارنا الله، فكن حذرًا من كشافه”.

وقال علي القاري: “وله دسائس خفيت على أكثر الناس فلهذا حرم بعض فقهائنا مطالعة تفسيره لما فيه من سوء تعبيره في تأويله وتعبيره”.

قلت: لا شك أن من حرمهُ حُرمَ خيرًا كثيرًا.

من جميل الشعر ما وصف به الزمخشري كتابه الجليل (الكشاف)، قال السيوطي :” ولما علم مصنفه أنه بهذا الوصف قد تجلى، قال تحدثًا بنعمة ربه وشكرًا:

إنّ التفاسيرَ في الدنيا بلا عددٍ

وليس فيها لَعُمرِي مثل كَشافي

إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته

فالجهل كالداء والكشافُ كالشافيِ

ويعلق صاحب (التفسير والمفسرون) (ج1  ص312) :” وليس عجيبًا أن يكون (الكشاف) كذلك وهو أول كتاب فى التفسير كشف لنا على سر بلاغة القرآن، وأبان لنا عن وجوه إعجازه، وأوضح لنا عن دقة المعنى الذى يُفهم من التركيب اللفظى”، وقد استوقفتني أثناء قراءتي كتاب الكشاف عبارة: “بدع التفاسير” كررها الزمخشري (19) مرة، عند ايراده بعض التفاسير الشاذة، وقد بحثت عن معناها في كلام الزمخشري، فلم أرجع بطائل يدل على مراده؛ تصريحًا أو تلميحًا.

يظهر لي من خلال البحث والتتبع والاستقراء أن الزمخشري لم يسبق إلى هذه الكلمة، حيث أصبحت مصطلحًا له، وعلمًا عليه، وكل من جاء بعده من المفسرين عالة عليه في استعمالها والتنظير لها، لذا تجدهم ينسبونها إليه في أغلب الأحيان.

من خلال القراءة والمراجعة تعلم أن الإمام الزمخشري قد أطلق ذلك المصطلح على التفسير الذي خالف فيه أصحابه في طريقتهم معهود العرب، أي أنهم فسروا الآيات بغير المعاني التي كانت سائدة ومعروفة عند العرب.

كذلك أطلقه على من فسر ألفاظه باللغات الغريبة، أو خرّج إعرابه على الوجوه الضعيفة والمنكرة، أو الشاذة بحسب القواعد النحوية والصرفية، فإن ذلك مما ينافي فصاحة القرآن، ومما يورث تنافرا في الكلمات، وضعفا في الأسلوب والتركيب، ويشوش على فهم الآيات.

ونظرًا لضيق المقام فإننا نمثل لهذ الأمر بمثال واحد اعترض فيه الزمخشري على تفسير بعض المفسرين لفظة (إمام) في قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الإسراء (71). بمعنى (أمهاتهم).

قال-رحمه الله- الزمخشري -الكشاف- (ج2 ص 682) : ” ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ فَمَنْ أُوتِيَ من هؤلاء المدعوّين كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ قيل أولئك، لأن من أوتى في معنى الجمع.

وقد صوّب الإمام الفخر الرازي كلام الزمخشري وأتى به كاملا.

وكنت على وشك ضرب مزيد من الأمثلة التي قال فيها الزمخشري “من بدع التفاسير” غير أنني أرجأت ذلك للمقال القادم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. كم كان طرحكم نافذًا وبليغًا، فقد أضفيتم عليه جمال العبارة ودقة المنهج، فجاء تناولكم للكشاف وافيًا من حيث الجوانب البلاغية والعقدية، قائمًا على ميزان علمي رصين. جمعتم بين التقدير العميق لمكانته والتنبيه الحكيم إلى ما يستدعي الحذر، فكان عرضكم مثالًا يُحتذى في الكتابة العلمية المحكمة. نفع الله بكم وزادكم توفيقًا ورفعة.

  2. تحياتي واحترامي وان البلاغة لا حدود لها فهي لا متناهية في الدقة والغاية والاسلوب والمرونة وان من الخطأ ان نقول ان القران حمال اوجه فله وجه لو عرفناه وصلنا لمقصد الله وتلك هي البلاغة فمن الذكاء ان تضع الانسان امام خيارات عدة حسب اعتقادك وخيارك ستفهم وسيغيب المعنى والمقصد والمراد الحقيقي عن من لا يريد فهمها على وجهها الصحيح والله وضعنا في الدنيا ليختبرنا هل نؤمن ام نكفر اي هل نفهم المقصد الحقيقي فنؤمن او لا فنزيغ عن الصواب وله حكمة في ذلك والله اعلم .مقال جميل ورؤى تضعنا امام محاكمة عقلية منطقية وهذا ما عودنا عليه دكتور احمد الزبيدي جزاه الله كل الخير مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولكتاباتك التي تستفز عقل القارئ ليصل لنتائج ومقاربات عقلية جلية .تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى