تُستخدم عبارة “ليس لدي فكرة” في اللغة العربية و”I have no idea” في اللغة الإنجليزية على نحو يومي، وغالبًا ما تمر دون أن نتوقف عندها، وكأنها مجرد تصريح بعدم المعرفة أو الجهل بالمعلومة المطلوبة. ولكن عند تأملها من منظور علم اجتماع اللغة والفلسفة، نكتشف أنها تحوي أبعادًا أعمق من مجرد نفي بسيط للمعرفة. هذه العبارات تختزن في طياتها مواقف ثقافية، ونماذج تفكير، ومواقف من الذات والمعرفة والمجتمع.
من الناحية اللغوية،كلتا العبارتين تبنيان نفيًا للامتلاك: “ليس لدي” و”I have no”، تليهما كلمة “فكرة” أو “idea”، وكأن المعرفة شيء يُمتلك، يمكن أن يكون في حوزة الفرد أو خارج متناوله. هذا التعبير المجازي عن “امتلاك الفكرة” يعكس تصورًا شائعًا في العديد من اللغات للمعرفة بوصفها شيئًا ماديًا، يمكن امتلاكه أو فقدانه، أو تداوله أو حجبه، لكنه أيضًا يُحيل إلى العلاقة بين الفرد والمعرفة في ثقافته، أي ما إذا كان من المقبول والمُحبَّذ أن يُعلن الإنسان عن جهله أو عدم معرفته بشيء ما.
في الثقافة العربية، استخدام عبارة “ليس لدي فكرة” قد يحمل أحيانًا دلالة الحسم أو التحفظ، وهو أمر مرتبط بالبُعد الاجتماعي للقول، ففي بعض السياقات يُنظر إلى التصريح بعدم المعرفة كعلامة ضعف أو تقصير، خاصة في مواقف العمل أو الحوار المعرفي، ما يدفع المتحدث إلى تجنب استخدامها ما أمكن، أو إلى تغليفها بتبرير أو تحفظ. بينما في الثقافة الغربية، لا يُعد استخدام عبارة “I have no idea” أمرًا محرجًا، بل قد يُفهم بوصفه تعبيرًا عن التواضع المعرفي، أو استعدادًا للدخول في حوار مفتوح واستكشافي. بل وقد تُستخدم العبارة أحيانًا على سبيل المجاملة أو التهذيب، لتجنب إعطاء إجابة قاطعة.
من منظور فلسفة اللغة، وتحديدًا في إطار نظرية الأفعال الكلامية كما طرحها أوستين وسيرل، فإن هذه العبارات لا تُعبّر فقط عن محتوى معرفي سلبي، بل تؤدي وظيفة تداولية أوسع. فالقول “ليس لدي فكرة” قد يكون في مضمونه الظاهر نفيًا، لكنه في مضمونه التداولي يمكن أن يعني “لا تسألني أكثر”، أو “هذا ليس من شأني”، أو حتى “أنا لا أرغب في الخوض في هذا الآن”. كذلك “I have no idea” قد تعني في بعض السياقات “لا أعلم، ولكنني مهتم بمعرفة المزيد”، أو “الأمر محيّر لدرجة أنني عاجز عن تقديم رأي فيه”. هنا يظهر الدور المركزي للسياق في تحديد معنى العبارة، بما يتجاوز مضمونها الحرفي.
إن هذه العبارات تعكس أيضًا العلاقة بين الفرد والمعرفة داخل البناء الثقافي والاجتماعي. في بعض المجتمعات، يُنظر إلى الشخص العارف كصاحب سلطة، وبالتالي فإن الاعتراف بالجهل يمثل تخليًا عن موقع القوة. أما في مجتمعات أخرى، فإن الاعتراف بالجهل يُعد فضيلة فكرية، تفتح الباب للنقاش والمراجعة والنمو المعرفي. ومن هنا نفهم أن اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعلومات، بل هي كذلك وسيلة لبناء الهوية والتفاوض على المواقع الاجتماعية.
اللافت أن العبارة توظف الفكرة كمفهوم مجرد، وكأنها وحدة فكرية قائمة بحد ذاتها، يمكن امتلاكها أو فقدانها. هذا التشييء للفكرة (Reification) ينسجم مع تصورات معرفية ترى الفكر كشيء يُحاز ويُمنح ويُحرم، وهو تصور راسخ في العديد من التقاليد الفلسفية الغربية والعربية على السواء. ولكن خلف هذا البناء اللغوي، تكمن رؤية ضمنية للعقل الإنساني، ليس فقط كمصدر للأفكار، بل كحاوية لها، تخضع فيه المعرفة للقياس والتقييم والمقارنة.
إن تأمل مثل هذه العبارات اليومية يفتح لنا آفاقًا لفهم العلاقة بين اللغة والثقافة، بين ما نقوله وما نقصده فعليًا، وبين ما نُظهره وما نخفيه. حين نقول “ليس لدي فكرة” أو “I have no idea”، فنحن لا نُبلغ فقط عن نقص في المعرفة، بل نُفصح عن موقعنا في لحظة تواصلية، ونُعلن شكلًا من أشكال العلاقة مع الآخر ومع الذات. هذه العبارات، على بساطتها، تُخبرنا الكثير عن طبيعة الفكر الإنساني، وكيف تُعيد اللغة تشكيله وإعادة تقديمه وفقًا لضرورات اجتماعية وثقافية دقيقة.