مقالات
بين العامية والفصحى (29) د. أحمد الزبيدي – الإمارات
"أباطيل وأسمار" (7) عوائق الفكر عند محمد شحرور


قال “شيخ المعرة” رحمه الله:
هل صَحَّ قَولٌ مِنَ الحاكي فَنَقبَلَهُ
أَم كُلُّ ذاكَ أَباطيلٌ وَأَسمارُ
أَمّا العُقولُ فَآلَت أَنَّهُ كَذِبٌ
وَالعَقلُ غَرسٌ لَهُ بِالصِدقِ أَثمار
في حديثه عن العوائق التي تعوق الفكر عن ممارسة البحث العلمي الصحيح، قال محمد شحرور في كتابه: “الكتاب والقرآن” (ص 31) :”إن الفكر العربي المعاصر ومن ضمنه الفكر الإسلامي يعاني من المشاكل الأساسية التالية، وذكر منها :” عدم الاستفادة من الفلسفات الإنسانية، وعدم التفاعل الأصيل المبدع معها، حيث لا يمكن أن نضع كل ما انتجه الفكر الإنساني منذ اليونان إلى يومنا هذا، في هامش الخطأ أو الباطل…”.
هل حقا أن الفكر العربي المعاصر، والفكر الإسلامي لم يستفدْ من الفلسفات الإنسانية !؟.
وهل صحيح أن علماء المسلمين قديمَا وحديثَا رفضوا الفلسفات الإنسانية لمجرد أنها فلسفات !؟.
مما لا شك فيه أن كلام شحرور هذا مثل غيره؛ من الكلام المرسل الذي يرسله على عواهنه دون أن يلقي له بالًا، أو يعرف له مآلَا، وقد اثبتنا ذلك في المقالات السالفة.
وأول ما نرد به عليه أن نُذكّره بحركةُ الترجمة الواسعة؛ من اليونانيّة إلى العربيّة في أواخر الفترة الأموية وفي العصر العباسي الأول، حيث ترجمتْ فيها كتب التراث اليوناني؛ الفلسفة، والرياضيات، والفلك، والطب، والأدب.
وثاني ما نردّ به على شحرور أن نُذكّر بتلك الأسماء اللامعة في سماء العلم؛ مثل الكندي، والفارابي، وابن سينا،والرازي، وابن رشد، والغزالي، وابن خلدون، وغيرهم الكثير.
أما دعوى عدم الاستفادة من الفلسفة فنحتاج إلى وقفة قصيرة معها.
ابتداءً؛ لا ننكر أن علماء الإسلام، ولا سيما علماء الكلام منهم قد انتفعوا بالفلسفة؛ فالأشعري فمن دونه قد استفادوا حينما استعانوا بالنظريات الفلسفية لتدعيم علم الكلام، وتقوية حججه، وتسديد براهينه، ومبدأ ذلك أن علماء المسلمين درسوا المنطق الأرسطي والفلسفة اليونانية بعد أن تسربت لبلادهم بعض المسائل الفلسفية، وزادت دراستهم لها، واتسع اطلاعهم عليها، واهتمامهم بها بعد أن ترجمت الكتب اليونانية وصارت امرا واقعا ؛ مما أحدث صداما فكريا مع أصحاب الأديان الأخرى، وكانوا قد شَدُوا شيئا من الفلسفة اليونانية وبدئوا يثيرون الشبهات في وجوه المسلمين؛ يجادلونهم ويحاججونهم في عقائدهم وأركان دينهم بها!
غير أن بعض فلاسفة المسلمين قد بلع الفلاسفة ولم يتقيأهم، وبعضهم أشرب في قلبه حب الفلسة مع ما فيها من مخالفات للعقيدة الإسلامية، وما تُحَمله للعقل من أحمال وأوزار ينوء بحملها.
ولقد تسربت الفلسفة في خفاء إلى فنون إسلامية عديدة؛ فدخلت قواعد النحو، وأصول الفقه، وعلم التصوف، حتى إذا رأى الناس انتشارها فُتنوا بها وبأسماء الفلاسفة الكبار، ما حدا بالإمام الكبير حجة الإسلام الغزالي أن يعكف على دراستها، وفهمها، والتنظير لها ،حتى صار واحدا من رؤوسها، بل هو -بحسب الأستاذ ماكدونالد- أوَّلُ من أدنى الفلسفة وقرَّب بحوثها الدينية أو الإلهيات من متناول الذهن العادي وتعاطي الناس عامة لها، وكانت من قبله محفوفة بالأسرار مكتنفة بالغموض والرهبة، كأنها علم لاهوتي لا يدركه غير أصحابه والراسخين فيه؛ لما كان لاصطلاحاتها من الغرابة على الأذهان، حتى لتقتضي معرفتها الدرس المجهد، والاستظهار الشاق، وكان من الصعب تفهمها ودراستها، فقد انتقلت النظريات والمذاهب والأفكار اليونانية بأكثر مصطلحاتها وتعبيراتها إلى السريانية أولًا ثم إلى العربية، وأوجب هذا الانتقال تصحيفًا وتحريفًا عند التعريب، وكان لا بدَّ من طول دراسة وتقص متواصل قبل معرفة مصطلحات الجدل والإلمام بعلم المناظر”.
ولقد ألف لهم أولا “مقاصد الفلاسفة” كديل واضح على فهمه وهضمه لعلم الفلسفة كما يفهمها أصحابها والمحققين لها، ثم عمد بعد ذلك إلى نقدها (الفلسفة) نقد العالم البصير فأحدث نقده نقطة تحول جذرية في مسار الفكر الإسلامي، بل الإنساني كله، مما أثر على الأجيال اللاحقة من العلماء والمفكرين، وجعل ذلك في كتاب (تهافت الفلاسفة) حيث سهله وذلله للعوام ، فجعله واضح العبارة، ظاهر الإشارة، يانع الثمرة، داني القطاف،فكان في متناول طلاب العلم الصغار والضعاف، مما أغضب منه الإمام القاضي ابن رشد وأثار حفيظته؛ فما كان منه إلا أنه اتهمه بأنه أباح الفلسفة للعامة، وأفقدها هيبتها، وأنزلها من سمائها !
وما زعمه ابن رشد ليس كذبًا ولا افتراء؛ بل هو حقيق وخليق بأبي حامد، فقد صرح أبو حامد نفسه بذلك.
قال -رحمه الله- :” أما بعد، فإني التمست كلامًا شافيًا في الكشف عن تهافت الفلاسفة، وتناقض آرائهم، ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذاهبهم، وإعلامك معتقدهم؛ فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محال، بل رمي في العماية والضلال؛ فرأيت أن أقدم على بيان تهافتهم كلامًا وجيزًا مشتملًا على حكاية مقاصدهم في علومهم المنطقية والإلهية، من غير تميز بين الحق والباطل، بل لا أقصد إلا تفهم غاية كلامهم من غير تطويل”.
ثم شرع الغزالي يلخص الفلسفة في عشرين مسألة رئيسة، ثم سرعان ما كرّ عليها بالتزييف والنقض والنقد في قوة وحكمة واقتدار، ولم يتركها إلا وهي جثة هامدة يهال عليها التراب. وقد رأى ابن رشد في صنيع الغزالي هذا شرا وجهلا فأطلق عليه اسم :”الجاهل الشرير”.
ومهما يُقَلْ عن نجاح الغزالي في القضاء على الفلسفة فإنه بلا أدنى شك قد نجح نجاحًا باهرًا؛ وحقق إنجازا ظاهرا؛ نلمس أثره، ونشاهد تداعياته في الشرق والغرب على السواء ؛ إذ أصبح اسم الفلسفة واسم الزندقة في قرن واحد، فلا تذكر واحدة إلا وتذكر الأخرى معها!
ومع أن الغزالي بكتابه “تهافت الغلاسفة” قد قلم مخالب الفلسفة، وانتزع أنيابها، وخفف من خطرها، وجنب فتنتها كثيرا من العقول، إلا أن ذلك لم يكن خيرًا خالصًا غير مقبول، بل كان فيه خيرًا فيه شر.
قال الإمام شهاب الدين الرملي – رحمه الله – وقد سئل: هل يحرم الاشتغال بعلم المنطق ؟
فأجاب بأن في الاشتغال به ثلاثة مذاهب قال ابن الصلاح والنووي: يحرم الاشتغال به , وقال الغزالي من لا يعرفه لا يوثق بعلومه، والمختار كما قال بعضهم جوازه لمن وثق بصحة ذهنه ومارس الكتاب والسنة وغايته عصمة الإنسان عن أن يضل فكره ونسبته إلى المعاني كنسبة النحو إلى الألفاظ وهو آلة لغيره من العلوم ولا يحتاج إلى آلة أخرى.
قال العلامة الأخضري في منظومة “السلم المنورق”:
والخلف في جواز الاشتغالِ
به على ثلاثةٍ أقوالِ
فابنُ الصَّلاح والنواوي حرَّمَا
وقال قومٌ: ينبغي أن يُعلَمَا
والقولةُ المشهورة الصَّحيحهْ
جوازه لكامِلِ القَريحهْ
وقد فطن الغزالي-رحمه الله لهذا فقال :”إن لكل شيء وجهين؛ وجه خير ووجه شر “.
على ان الغزالي -رحمه الله- وقد ألف كتابه “تهافت الفلاسفة” ليناقش فيه آراء الفلاسفة التي تتعارض مع الإسلام وينقضها جميعاً، وقد احتوى التهافت على عشرين مسألة، ثمان منها تتعلق بالبارئ وصفاته، على أن أكبر مآخذه على فلاسفة الإسلام هو أنهم ألغوا الصفات وأنكروا علم الله بالجزئيات، وقد تهكم عليهم تهكما شنيعاً في هذا الصدد قائلا: (وليتعجب العاقل من طائفة يتعمقون في المعقولات بزعمهم، ثم ينتهي أخر نظرهم إلى أن رب الأرباب ومسبب الأسباب لا علم له أصلا بما يجري في العالم، وأي فرق بينه وبين الميت إلا في علمه بنفسه؟ وأي كمال في علمه بنفسه مع جهله بغيره؟ وهذا مذهب تغني صورته في الافتضاح عن الإطناب والإيضاح).
وذهب في ثماني مسائل أخرى يرد على فكرة الخلق التي ذهب إليها الفلاسفة مبيناً أنها ترمي إلى خلق صوري ليس له أثر في الوجود. ثم انتقل بعد هذا إلى خلود الروح فيبين في مسألتين أخريين أن الفلاسفة لم يستطيعوا البرهنة على هذه النقطة في وضوح.
كذلك لم يقبل الغزالي التفسير النفسي (السيكلوجي) للنبوة، ورفض رأي الفلاسفة فيه، وأخيراً هاجم حجة الإسلام الفلاسفة هجوماً عنيفاً فيما يتعلق بالحشر والنشر، وأخذ عليهم إنكارهم أصلا ثابتاً من أصول الدين. وفي الختام علن حكمه؛ وهو أن الفلاسفة السابقين مبتدعين في سبع عشرة مسألة، وصرح بكفرهم في ثلاث:
-
هي قولهم بأن الله يعلم الكليات لا الجزيئات.
-
وادعاؤهم قدم العالم وأبديته.
-
وإنكارهم لحشر الأجساد.