مقالات

دراسات قرآنية (17)         د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات

رد الإمام ؛ الفخر الرازي على المعتزلة (ج5).. رؤية الله عز وجل (4)

د. أحمد الزبيدي

ومن الآيات التي فهم منها جمهور المسلمين جواز رؤية الله سبحانه؛ قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأعراف : 143]

قالوا: هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه:

الأول: أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية، ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفًا بما يجب، ويجوز، ويمتنع، على الله تعالى، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها وحيث سألها، علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى.

أدلة المعتزلة في عدم جواز الرؤية:

قال القاضي: الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة:

أحدها: ما قاله الحسن وغيره: أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى!

وثانيها: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه، فقد كانوا جاهلين بذلك؛ يكررون المسألة عليه يقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فسأل موسى الرؤية لا لنفسه، فلما ورد المنع منها ظهر أن ذلك لا سبيل .

وثالثها: أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار، وأهل هذا التأويل مختلفون فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية، ومنهم من يقول: بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته وإن كانت من فعله كما نقوله في معرفة أهل الآخرة، وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي. ورابعها: المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي. وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء وهو الذي ذكره أبو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية.

الرد على أقوال المعتزلة:

قال أصحابنا أما الوجه الأول فضعيف، ويدل عليه وجوه: الأول: إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة، وذلك باطل بإجماع المسلمين.

 الثاني: أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل. فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم، فإن كان الأول؛ كان تجويزه لكونه تعالى مرئيًا يوجب تجويز كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزمهم كون موسى عليه السلام كافرا وذلك لا يقوله عاقل، وإن كان الثاني فنقول: لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل علما بديهيا ضروريا ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلا لموسى عليه السلام لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنونا وذلك كفر بإجماع الأمة، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالما بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلا والله أعلم.

وأما التأويل الثاني: وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه فهو أيضا فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى: أرهم ينظروا إليك ولقال الله تعالى: لن يروني، فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل.

الثاني: أنه لو كان هذا السؤال طلبا للمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] منعهم عنه بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]

الثالث: أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لا يذكر شيئا من تلك الدلائل البتة مع أن ذكرها كان فرضا مضيقا كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام وأنه لا يجوز.

الرابع: أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام أو ما آمنوا بها فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له: لا نسلم أن الله منع من الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام أرني أنظر إليك وأما التأويل الثالث: فبعيد أيضا ويدل عليه وجوه:

الأول: أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمرا أنظر إلى أمرك ثم حذف المفعول والمضاف إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا وهو قوله: { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف.

الثاني: أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها؛ كالعصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وإظلال الجبل، فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة.

 الثالث: أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة. ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول: أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود؟ ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد.

 الرابع: أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات، ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك فثبت أن هذا القول فاسد. وأما التأويل الرابع وهو أن يقال: المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه، فهو أيضا بعيد، لأنه لو كان المراد ذلك، لكان الواجب أن يقول: أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية. علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة.

الحجة الثانية: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله فإنه يقول له هذا لا يؤكل ولا يقول له لا تأكل. ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له: لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله. فلما قال تعالى: (لن تراني)، ولم يقل لا أرى علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية.

الحجة الثالثة: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة. إنما قلنا: إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل بدليل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143])، واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه.

إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها لأنه لما كان ذلك الشرط أمرا جائز الوجود لم يلزم من فرض وقوعه محال فبتقدير حصول ذلك الشرط إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله، إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل، فإن قيل: إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته واستقرار الجبل حال حركته محال. فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول لا على شرط جائز الحصول فلم يلزم صحة ما قلتموه ؟ والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال: إنه حال ما جعل استقراره شرطًا لحصول الرؤية كان ساكنًا أو متحركًا فإن كان الأول لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقرًا ولما لم يكن مستقرًا كان متحركًا، فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطا لحصول الرؤية كان متحركا لا ساكنا. فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقرا حال كونه ساكنا فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية هو كون الجبل مستقرًا حال كونه متحركا وأنه شرط محال.

والجواب: هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم فلو أخذته من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو كونه معدوما كان ممكن الوجود فكذا هاهنا الذي جعل شرطًا في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطا أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه. والله أعلم.

الحجة الرابعة: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]،وهذا التجلي هو الرؤية ويدل عليه وجهان: الأول: أن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء وإبصار الشيء أيضا يجلي لذلك الشيء. إلا أن الإبصار في كونه مجليا أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى.

 الثاني: أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه، ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود. فثبت أن قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية، أقصى ما في الباب أن يقال: الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئا إلا أنا نقول: لا يمتنع أن يقال: إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى والدليل عليه أنه تعالى قال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أُعْطِينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا، وَقُلْنَا لِلْجِبَالِ: {أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه، فكذا هاهنا فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية.

  • أما المعتزلة فقالوا: إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات. أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها فلا حاجة هنا إلى ذكرها. وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] وقد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه:

 الأول: التمسك بقوله تعالى: {لن تراني}، وتقرير الاستدلال أن يقال: إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله البتة لا في الدنيا ولا في القيامة، ومتى ثبت هذا ثبت أن أحدا لا يراه البتة ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى فهذه مقدمات ثلاثة.

أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه:

   الأول: ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة «لن» للتأبيد.    قال الواحدي رحمه الله: هذه دعوى باطلة على أهل اللغة وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح وقال أصحابنا: الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة.

 الثاني: أن قوله: {لن تراني}، يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضا ضعيف لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه.

الثالث: أن قوله لن أفعل كذا يفيد تأكيد النفي ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}. [الحج: 73] وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية والجواب: أن (لن) لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله: (لن تراني) نفيا لذلك المطلوب فأما أن يفيد النفي الدائم فلا. فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة.

أما المقدمة الثانية: فقالوا: القائل اثنان: قائل يقول: إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضا يراه وقائل ينفي الرؤية عن الكل أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل.

وأما المقدمة الثالثة: فهي أن كل من نفى الوقوع نفى الصحة، فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل، واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية.

الحجة الثانية للقوم: أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقا ولو كانت الرؤية جائزة. فلم خر عند سؤالها صعقا؟

الحجة الثالثة: أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك، وهذه الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى فكان قوله: (سبحانك)، تنزيها له عن الرؤية فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات، فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات، وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة.

الحجة الرابعة: قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال: {تبت إليك}، ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال: وأنا أول المؤمنين.

واعلم أن أصحابنا قالوا: الرؤية كانت جائزة إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكانت التوبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه فهذا جملة الكلام في هذه الآية. والله أعلم بالصواب.

المسألة الرابعة: في البحث عن هذه الآية. نقل عن ابن عباس أنه قال: جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون، وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل، وكلم الله موسى، وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال صاحب «الكشاف» : ثاني مفعولي أرني محذوف أي أرني نفسك أنظر إليك وفي لفظ الآية سؤالات:

السؤال الأول: النظر: إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته، وعلى التقدير الأول: يكون المعنى أرني حتى أراك وهذا فاسد، وعلى التقدير الثاني: يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين:

 أحدهما: أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى، والثاني: أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد.

والجواب: أن قوله: (أرني) معناه اجعلني متمكنا من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.

السؤال الثاني: كيف قال: (لن تراني) ولم يقل لن تنظر إلي حتى يكون مطابقا لقوله: أنظر إليك.

والجواب: أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.

السؤال الثالث: كيف اتصل الاستدراك في قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: 143] بما قبله؟

والجواب: المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحدا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية.

أما قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] ، فقال الزجاج: تجلى أي ظهر وبان، ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها، وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ، وقوله: {جعله دكا}، قال الزجاج: يجوز دكا بالتنوين ودكاء بغير تنوين أي جعله مدقوقا مع الأرض يقال: دككت الشيء إذا دققته أدكه دكا والدكاء والدكاوات: الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة. فعلى هذا الدك مصدر والدكاء اسم. ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله: جعله دكًا أنه قال: دكه دكًا مصدر مؤكد ويجوز جعله ذا دك. قال ومن قرأ “دكاء” ممدودا أراد جعله دكاء أي أرضًا مرتفعة وهو موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال: جعله ترابًا، وقوله: {وخر موسى صعقا}، قال الليث: الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان والصعقة الغشية. يقال: صعق الرجل وصعق، فمن قال صعق فهو صعق. ومن قال صعق فهو مصعوق. ويقال أيضا: صعق إذا مات ومنه قوله تعالى: {فصعق من في السماوات ومن في الأرض}. [الزمر: 68] فسروه بالموت. ومنه قوله: {يومهم الذي فيه يصعقون}، أي يموتون. قال صاحب «الكشاف» : صعق أصله من الصاعقة ويقال لها: الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه.

إذا عرفت هذا فنقول: فسر ابن عباس قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] ، بالغشي وفسره قتادة بالموت، والأول أقوى لقوله تعالى: {فلما أفاق}، قال الزجاج: ولا يكاد يقال للميت: قد أفاق من موته ولكن يقال للذي يغشى عليه: إنه أفاق من غشيه، لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا: {ثم بعثناكم من بعد موتكم} [البقرة: 56] .

أما قوله: {قال سبحانك}، أي تنزيها لك عن أن يسألك غيرك شيئا بغير إذنك تبت إليك وفيه وجهان:

 الأول: تبت إليك من سؤال الرؤية في الدنيا.

الثاني: تبت إليك من سؤال الرؤية بغير إذنك وأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو يقال: وأنا أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال منك الا بإذنك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى