مقالات

“المفهوم والمعنى: تمايز الدلالة بين الفكر واللغة”” د. قاسم محمد كوفحي – الإمارات

د. قاسم محمد كوفحي

حين نتأمّل اللغة بوصفها أداةً للفكر ومرآةً للوجود، نقف على عتبة اصطلاحين طالما اختلطا على الأذهان: المفهوم(Concept) والمعنى(Meaning). إنّهما وجهان متباينان في حقيقتهما، متعانقان في حضور كلٍّ منهما، فمن غير الممكن أن نبحث عن المعنى دون أن نُلمَّ بالمفهوم، ولا أن نُنشئ مفهومًا دون أن نكسوه بالدلالة اللغوية التي تمنحه الحياة في الكلام، فـالمفهوم، في جوهره، هو التمثّل العقلي، أو الصورة الذهنية، أو النواة التي يُنتجها الفكر الحرّ حين يتأمّل الأشياء ويصنّفها ويجرّدها من خصوصيتها الآنية. ولعلّ أوضح مثالٍ على ذلك هو كيف نكوّن مفهوم “الشجرة” في أذهاننا: حين نسمع الكلمة، لا نقف عند شجرة زيتون بعينها أو نخلةٍ باسقةٍ في بستانٍ ما، بل يتشكّل في وعينا نموذجٌ عامٌّ يحمل السمات الجوهرية لفكرة الشجرة: ساقٌ خشبيةٌ، وجذورٌ، وأغصانٌ، وأوراقٌ، وربما ظلّ. هذا المفهوم يظلّ ثابتًا نسبيًّا رغم اختلاف أشكال الأشجار وأسمائها في لغات العالم.

أمّا المعنى فهو الوجه الآخر لهذه الصورة الذهنية حين تتجسّد في لغةٍ وسياق. فحين أقول: “جلست تحت ظلال الشجرة”  هنا المعنى مباشرٌ: شجرة في حديقة أو مزرعة. بينما إن قلت: “جدّي كان شجرةَ العائلة”  فإنّ المعنى يتجاوز الصورة النباتية ليحطّ في أرض المجاز، حيث تصبح “الشجرة” استعارةً للجدّ الذي امتدّت منه فروع الأبناء والأحفاد. المفهوم لم يتغيّر: الأصل والفروع والامتداد، لكنّ المعنى تمدّد ليتكئ على الرمز.

ولتعميق هذا الفارق أكثر، تأمّل كلمة “النور”.مفهوم النور في عقل الإنسان يرتبط بالضوء، وبانقشاع الظلمة، وبقدرة البصر على الإبصار. هذا التمثّل العقلي موجود لدى الإنسان منذ بدايات وعيه. غير أنّ المعنى يتغيّر باختلاف المقام: ففي العلوم الفيزيائية مثلًا، “النور” هو موجاتٌ كهرومغناطيسية لها أطوال موجية محدّدة. وفي النصوص الدينية، “النور” قد يكون رمزًا للهداية والحق، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، حيث يصبح النور هنا مفهومًا روحيًّا يخرج من محدودية الفيزياء إلى فضاء الماورائيات. أمّا في الشعر، فقد يقول شاعر: هي نور قلبي، فينقله إلى مجازٍ عاطفيٍّ محض، ويكسبه معنى وجدانيًا جديدًا.

ولنضرب مثالًا من العلم أيضًا: كلمة “الخليّة”. المفهوم العلمي الدقيق للخليّة هو الوحدة الأساسية للحياة في الكائنات الحيّة، لها نواة، وغشاء، وظائف حيوية. هذا هو المفهوم الذي يتلقّاه الطالب في دروس الأحياء. لكنّ المعنى في الاستعمال يتلوّن: نقول “خلية نحل”، أو “خلية عمل سرّية”.  في كلّ مرة، يبقى المفهوم الأصلي (وحدة صغيرة مستقلّة ذات وظيفة)، لكنّ المعنى يختلف تمامًا بحسب السياق.

ويتّضح الفارق أكثر حين نُدخل البُعد الثقافي. ففي الثقافة العربية، كلمة “البيت”  تحمل مفهومًا ماديًّا معروفًا: مكانٌ للسكن والإيواء. لكنّ معناها الأدبي والشعري يفيض على حدود الطوب والإسمنت: فنقول “بيت القصيد” لنشير إلى جوهر الكلام، أو “بيتي وطنٌ صغير” لنؤكد المعنى الوجداني للمكان. هنا المفهوم مكثّف وواضح، بينما المعنى متحوّل بين الواقع والرمز.

كذلك في الخطاب القانوني أو الفلسفي، نجد أنّ كثيرًا من المفاهيم تحتاج إلى ضبطٍ صارمٍ تجنّبًا لانزلاق المعنى. فمفهوم “العدالة” في الفلسفة السياسية هو مبدأ مجرّدٌ يُحدّد توازن الحقوق والواجبات، أمّا في الحياة اليومية فقد يُستخدم معنى “العدالة” على نحوٍ فضفاضٍ للدلالة على الانتقام أحيانًا، أو الترضية، أو حتى المساواة العاطفية بين الأبناء، مع أنّ المفهوم الأصلي للعدالة لا ينحصر في هذا الفهم البسيط.

إنّ هذا التمايز بين المفهوم والمعنى يُضيء كيف يُسهم الفكر في تشكيل اللغة، وكيف تُعيد اللغة صياغة الفكر في قالبٍ حيٍّ يمكن نقله وفهمه وتأويله. لذا نجد الفلاسفة واللغويين والمترجمين يحرصون على تمييز المفاهيم بحروفٍ واضحة، لأنّ انزلاق المفهوم في متاهة المعاني قد يُربك الخطاب ويشوّش الغاية.

في النهاية، لعلّ من أجمل ما يعلّمنا إيّاه هذا الفرق أنّ اللغة ليست مرآةً صامتةً للعقل فقط، بل هي أيضًا الممرّ الذي يعبُر من خلاله المفهوم إلى حياةٍ جديدةٍ في معناها. فما المفهوم إلّا نواة الفكر، وما المعنى إلّا نُضجُ تلك النواة حين تسكن جسد الكلمة في حضرة السامع والقارئ. وما بينهما، يكمن سرّ الإنسان: أن يُفكّر، فيُسمّي، ثم يُحمّل تسميته بآلاف الحيوات والدلالات، كلّما نطق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى