مقالات
الجامعات تحت مجهر السمعة.. تأملات في تصنيف QS د. قاسم محمد كوفحي – الإمارات


يُعدُّ تصنيف الجامعات العالمي الصادر عن مؤسسة كواكواريلي سيموندز Quacquarelli Symonds البريطانية، والمعروف اختصارًا بـ QS، من أبرز التصنيفات الأكاديمية التي تحظى باهتمام الجامعات والطلبة وأرباب العمل حول العالم. وقد اكتسب هذا التصنيف مكانته الرفيعة نظرًا لاعتماده على معايير دقيقة تجمع بين الجانب الأكاديمي والمهني والبحثي والتنوع الدولي، ما يجعله مرجعًا مهمًا عند مقارنة الجامعات عالميًا أو البحث عن وجهات دراسية مرموقة. يعتمد تصنيف QS على مزيج من البيانات الكمية ونتائج استطلاعات الرأي التي يشارك فيها مئات الآلاف من الأكاديميين وأصحاب العمل في مختلف أنحاء العالم، مما يمنحه ثقلًا خاصًا من حيث المصداقية والانتشار.
يرتكز التصنيف في جوهره على السمعة الأكاديمية، التي تشكل النسبة الكبرى من الوزن الإجمالي للتقييم بنسبة تبلغ نحو أربعين بالمائة، ويُقاس هذا المعيار عبر استطلاع رأي عالمي يشمل باحثين وأساتذة جامعات يبدون آراءهم حول الجامعات التي يرونها الأجدر في تخصصاتهم البحثية. إلى جانب ذلك، يُخصص التصنيف نسبة عشرة بالمائة لسمعة أصحاب العمل، حيث تُجمع آراء أرباب العمل حول الجامعات التي يفضلون توظيف خريجيها، وهو عنصر يزيد من قيمة التصنيف لدى الطلاب الطامحين إلى الحصول على فرص عمل قوية بعد التخرج.
أما العنصر الثالث المهم في معادلة QS فهو نسبة عدد أعضاء هيئة التدريس إلى الطلاب، والتي تحتل حوالي عشرين بالمائة من الوزن العام، وتُعد هذه النسبة مؤشرًا غير مباشر على جودة التعليم والدعم الأكاديمي الذي يتلقاه الطالب داخل الجامعة، فكلما قلّ عدد الطلاب مقارنة بعدد الأساتذة زادت فرص التفاعل الفردي والجودة الأكاديمية. إلى جانب ذلك، يُولي التصنيف اهتمامًا كبيرًا بالتأثير البحثي للجامعة من خلال معيار الاستشهادات البحثية لكل عضو هيئة تدريس، والذي يُقدَّر أيضًا بنحو عشرين بالمائة، ويعكس مدى انتشار أبحاث الجامعة في الأوساط الأكاديمية وقدرتها على الإسهام في الإنتاج المعرفي العالمي، ويتم احتساب هذه البيانات عادةً عبر قواعد بيانات بحثية كبرى مثل Scopus.
لا يغفل تصنيف QS البُعد الدولي الذي بات معيارًا أساسيًا لجاذبية الجامعة عالميًا، إذ يُخصص نسبة خمسة بالمائة لقياس نسبة الطلاب الدوليين ضمن مجتمع الجامعة، وخمسة بالمائة أخرى لنسبة أعضاء هيئة التدريس الأجانب، ويعكس هذان المؤشران مدى انفتاح الجامعة على التنوع الثقافي والبحثي وقدرتها على جذب العقول المتميزة من مختلف البلدان. ومع تطور اهتمامات الأوساط الأكاديمية والقيم العالمية، أضافت QS مؤخرًا معايير جديدة مثل مؤشر الاستدامة الذي يُبرز مدى التزام الجامعة بقضايا التنمية المستدامة، إضافة إلى شبكة الأبحاث الدولية التي تُقاس عبر حجم التعاون البحثي العابر للحدود، وكذلك مؤشر نتائج التوظيف الذي يُظهر مدى قدرة الجامعة على صناعة فرص حقيقية لخريجيها في سوق العمل.
تُعد كل هذه المعايير مجتمعةً انعكاسًا لصورة الجامعة الشاملة من حيث جودة التعليم والبحث والسمعة العالمية، ولهذا يلجأ العديد من الطلبة الدوليين إلى تصنيف QS لاتخاذ قراراتهم بشأن الوجهات الدراسية الأنسب لهم، كما تعتمد الجامعات نفسها على تحسين ترتيبها في هذا التصنيف كوسيلة لتسويق مكانتها العلمية دوليًا وتعزيز فرص التعاون الأكاديمي والبحثي مع شركاء مرموقين. ورغم بروز تصنيفات أخرى إلى جانبه مثل تصنيف التايمز للتعليم العالي وتصنيف شنغهاي الأكاديمي، يظل QS مميزًا بتركيزه المتوازن بين السمعة الأكاديمية ورؤية أرباب العمل وسهولة فهم مؤشراته مقارنة ببعض التصنيفات الأكثر تعقيدًا. هكذا يظل تصنيف QS أداة مؤثرة في رسم خريطة التعليم العالي، حافزًا للجامعات على تطوير جودة التعليم والأبحاث والانفتاح الثقافي، ومؤشرًا موثوقًا للطلاب الساعين وراء مؤسسات أكاديمية تُقدّر العلم وتُخرّج قادة المستقبل.
إلا أن هذا التصنيف له بعض العيوب والملاحظات الجوهرية التي تطرحها الأوساط الأكاديمية والباحثون المهتمون بقياس جودة التعليم بدقة وعدالة. أول عيب يُؤخذ على تصنيف QS أنه يعتمد بشكل كبير على السمعة الأكاديمية وسمعة أصحاب العمل، وهذه السمعة تمثل تقريبًا نصف الوزن الكلي للتصنيف. وبما أن هذه السمعة تُجمع من خلال استطلاعات رأي، فهي تخضع لعوامل ذاتية وتحيّزات جغرافية وثقافية، وقد تميل لصالح الجامعات الناطقة بالإنجليزية أو الجامعات العريقة التي تمتلك سمعة تراكمية حتى وإن تراجع مستواها الفعلي. هذا قد يُقصي جامعات صاعدة تقدم جودة حقيقية لكنها لم تبنِ بعد شبكة علاقات دولية قوية أو لم تحظَ بالظهور الإعلامي الكافي.
العيب الآخر أن بعض المؤشرات مثل نسبة عدد أعضاء هيئة التدريس إلى الطلاب لا تعكس بالضرورة الجودة الأكاديمية الفعلية دائمًا. إذ قد تسعى بعض الجامعات لتحسين هذا المؤشر بزيادة التوظيف الشكلي أو تقليل أعداد الطلاب المقبولين، دون أن يصاحب ذلك تطوير حقيقي في أساليب التدريس أو بنية البرامج الأكاديمية.
ومن الانتقادات الشائعة أيضًا أن المؤشر البحثي في QS يعتمد على عدد الاستشهادات البحثية لكل عضو هيئة تدريس، ما قد يشجّع أحيانًا على النشر الكمي وليس النوعي، ويحفز بعض الجامعات على التركيز على الأبحاث القابلة للاستشهاد بكثرة – مثل الأبحاث الطبية – على حساب التخصصات الإنسانية والاجتماعية التي قد يكون إنتاجها البحثي أقل كثافةً لكنه أعمق من حيث الأثر المجتمعي.
من جهة أخرى، يدفع الهوس بتحسين ترتيب الجامعات في التصنيفات بعض المؤسسات الأكاديمية إلى توجيه سياساتها بما يخدم المؤشرات فقط، فيُصبح الاهتمام بزيادة نسبة الطلبة الأجانب أو استقطاب الأساتذة الأجانب هدفًا بحد ذاته حتى لو لم ينعكس دائمًا على جودة التجربة التعليمية أو البحثية داخليًا.
أما عن أثر ذلك كله على مخرجات التعليم الجامعي، فيكمن الخطر في أن تتحول الجامعة إلى مؤسسة تلاحق الشكل والمكانة أكثر من الجوهر. بمعنى آخر، قد يتحول جزء من الجهد الأكاديمي والإداري إلى تحسين الأرقام والتقارير والعلاقات العامة بدل التركيز على تطوير المناهج، وتأهيل الطلبة بمهارات حقيقية، وتفعيل دور البحث العلمي لخدمة القضايا الوطنية والمجتمعية.
ومع ذلك، لا يُمكن إغفال أن وجود مثل هذه التصنيفات قد حفّز الجامعات حول العالم على تحسين صورتها الخارجية، والانفتاح على التعاون البحثي الدولي، والاهتمام أكثر بقياس أدائها ومقارنته بمعايير عالمية. التحدي هنا أن تتحرر الجامعات من الارتهان الأعمى لمؤشرات التصنيف وأن تستخدمها كوسيلة لتطوير حقيقي وليس كغاية دعائية فقط.
باختصار، تكمن قيمة تصنيف QS في كونه مرشدًا عامًا أكثر من كونه حكمًا نهائيًا، ويظل من المهم دائمًا النظر إليه إلى جانب تصنيفات ومؤشرات أخرى، مع ربط نتائجه بسياق كل جامعة وبيئتها المحلية، وأهدافها الفعلية في تخريج كفاءات قادرة على صناعة التغيير لا مجرد منافسة على الورق.
وختاما، تُذكرني بعض هذه المعايير بتقارير تقييم أداء الموظفين، حيث قد يتساوى في الميزان سؤالٌ جوهري مثل: “هل يُنجز الموظف عمله بدقة وإتقان؟” مع سؤالٍ هامشي كـ “هل يعتني الموظف بمظهره ولباسه؟”. فيصبح الموظف الذي يُقصّر في عمله لكنه يحافظ على مظهرٍ أنيق، مساويًا لمن يُتقن عمله بإخلاصٍ لكنه لا يُولي مظهره العناية ذاتها.” أين مخرجات التعليم الأهم؟