د. أحمد الزبيدي
قال أبو الطيب المتنبي في “اللامع العزيزي” -شرح ديوان المتنبي- (ص 1206):
من الحِلمِ أن تستعمِلَ الجهل دونَه
إذا اتّسعتْ في الحِلمِ طُرْقُ المظالمِ
قال الواحدي: إذا كان حلمك داعيًا إلى ظلمك، فإن من الحلم أن تجهل، والمظالم جمع المظلمة وهي الظلم.
ولأبي الطيب -رحمه الله- فلسفة خاصة في الحلم. مثل قوله:
ليتَ الحوادثَ باعَتْني الذي أخذتْ
مني بحِلمي الذي أعطتْ وتجريبي
فما الحداثةُ من حِلمٍ بمانِعةٍ
قد يوجَدُ الحِلمُ في الشُبّان والشّيبِ
يريد؛ أنه كان قبل تحليم الحوادث إياه حليمًا، وإن الحداثة لا تمنع من الحلم فقد يكون الشاب حليمًا.
الحِلْم لغةً
قال الفيروزآبادى (المتوفى: 817هـ) : والحِلْمُ، بالكسر: الأناةُ، والعَقْلُ.
وقال ابن منظور في اللسان (ج12ص146):” وحَلُمَ، بِالضَّمِّ، يحْلُم حِلْماً: صَارَ حَليماً، وحلُم عَنْهُ وتَحَلَّم سَوَاءً. وتَحَلَّم: تَكَلَّفَ الحِلْمَ؛ قَالَ الشاعر :
تَحَلَّمْ عَنِ الأَدْنَيْنَ واسْتَبْقِ وُدَّهم
وَلَنْ تستطيعَ الحِلْمَ حَتَّى تَحَلَّما
وتَحالَم: أَرَى مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِهِ. والحِلْم: نقيضُ السَّفَه؛
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: (لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولوا الأَحْلام والنُّهَى). [صحيح أبي داود 678]
قال حجة الإسلام الغزالي في المقصد الأسنى (ص103): الْحَلِيم: هُوَ الَّذِي يُشَاهد مَعْصِيّة العصاة، وَيرى مُخَالفَة الْأَمر ثمَّ لَا يستفزه غضب، وَلَا يَعْتَرِيه غيظ، وَلَا يحملهُ على المسارعة إِلَى الانتقام مَعَ غَايَة الاقتدار عجلة وطيش، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة). [النَّحْل: 61].
الحلم اصطلاحاً:
قال الراغب في مفرداته(ص253): الحِلْم: ضبط النّفس والطبع عن هيجان الغضب.
ومن حكمهم:” كاد الحليم أن يكون نبيا”، كاد الحلم أن يكون سيد الأخلاق، غير أن آفته الإفراط فيه، وحين ذاك يكون مذموما.
وقد ذمَّ الشعراءُ الإفراط في الحلم، قال الجعدي:
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
وقال الأفوه:
يحلم الجاهل في السلم ولا …
يقر الحلم إذا ما القوم غاروا
ورئي الأحنف بن قيس وقد قاتل يومًا قتالًا شديدًا؛ فقيل: أين الحلم يا أبا بحر؟ فقال: عند الحبى؛ أي إن القوم إذا جلسوا في مجالسهم, وشدوا حباهم فذلك الوقت الذي يحمد فيه الحلم.
ومن أحكم الشعر وأجوده في تدبير الحلم والغضب ما قاله أبو حَاتِمٍ:
إذَا أَمِنَ الْجُهَّالُ جَهْلَك مَرَّةً
فَعِرْضُك لِلْجُهَّالِ غُنْمٌ مِنْ الْغُنْمِ
فَعَمِّ عَلَيْهِ الْحِلْمَ وَالْجَهْلَ وَالْقِهِ
بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالسِّلْمِ
إذَا أَنْتَ جَازَيْت السَّفِيهَ كَمَا جَزَى
فَأَنْتَ سَفِيهٌ مِثْلُهُ غَيْرُ ذِي حِلْمِ
وَلَا تُغْضِبَنَّ عِرْضَ السَّفِيهِ وَدَارِهِ
بِحِلْمٍ فَإِنْ أَعْيَا عَلَيْكُمْ فَبِالصَّرْمِ
فَيَرْجُوك تَارَاتٍ وَيَخْشَاك تَارَةً …
وَيَأْخُذُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِالْحَزْمِ
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بُدًّا مِنْ الْجَهْلِ فَاسْتَعِنْ
عَلَيْهِ بِجُهَّالٍ فَذَاكَ مِنْ الْعَزْمِ
الحلم ضربان:
قال ابن حبان البستي في روضة العقلاء (ص 210): والحلم على ضربين:
أحدهما: ما يرد على النّفس من قضاء الله من المصائب الّتي امتحن الله بها عباده فيصبر العاقل تحت ورودها ويحلم عن الخروج إلى ما لا يليق بأهل العقل.
والآخر: ما يرد على النّفس بضدّ ما تشتهيه من المخلوقين، فمن تعوّد الحلم فليس بمحتاج إلى التّصبّر لاستواء العدم والوجود عنده.
قال ابن حبّان- رحمه الله تعالى-: الحلم منه ما يكون سجيّة وطبعا، ومنه ما يكون تجربة وتكلّفا، ومنه ما يكون مركّبا منهما معا، وأوّل الحلم: المعرفة ثمّ التّثبّت، ثمّ العزم، ثمّ التّصبّر، ثمّ الصّبر، ثمّ الرّضا، ثمّ الصّمت، والإغضاء، وما الفضل إلّا للمحسن لمن أساء، فأمّا من أحسن إلى المحسن، وحلم عمّن لم يؤذه، فليس ذلك بحلم ولا إحسان، والنّاس بالنّسبة للمرء ضروب ثلاثة: رجل أعزّ منك ورجل أنت أعزّ منه، ورجل ساواك في العزّ، فالتّجاهل على من أنت أعزّ منه لؤم، وعلى من هو أعزّ منك جنف وعلى من هو مثلك هراش كهراش الكلبين، ونقار كنقار الدّيكين، ولا يفترقان إلّا عن الخدش والعقر والهجر ولا يكاد يوجد التّجاهل وترك التّجالم إلّا من سفيهين، وقد قيل:
ما تمّ حلم ولا علم بلا أدب
ولا تجاهل في قوم حليمان
وما التّجاهل إلّا ثوب ذي دنس
وليس يلبسه إلا سفيهان
فالواجب على العاقل إذا غضب واحتدّ أن يذكر كثرة حلم الله عنه مع تواتر انتهاكه محارمه وتعدّيه حرماته، ثمّ يحلم ولا يخرجه غيظه إلى الدّخول في أسباب المعاصي، ولذلك قال محمّد بن السّعديّ لابنه عروة لمّا وليّ اليمن: إذا غضبت فانظر إلى السّماء فوقك وإلى الأرض تحتك، ثمّ عظّم خالقهما.
قال الإمام الطُّرْطُوشي (المتوفى 520 هـ) في سراج الملوك (ص81):” قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (هود: 75) وفي الأمثال القديمة: كاد الحليم أن يكون نبياً. وروي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر فأنساهم! قال: لا تغضب! واعلم أن الحلم أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب، لما فيه من راحة السر واجتلاب الحمد، وأحق الناس به السلطان لأنه منصوب لإقامة أود الخلق وممارسة أخلاقهم، فإن لم يكن معه حلم يرد به بوادرهم وإلا وقع تحت عبء ثقيل.
وقال أكثم بن صيفي: الصبر على جرع الحلم أعظم من جنا ثمر الندم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. سألت كثيراً من كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم؟ قال: أزدشير فضل السبق غير أن أحمدهم سيرة أنوشروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي رضي الله عنه: هما توأمان أنتجتهما علو الهمة. ومن محمود السيرة أن تعرف الناس من أخلاقك أنك لا تعجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي؛ قال محمود الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب
وإن عظمت منه علي الجرائم
وسئل بزر جمهر عن الحلم فقال: “العفو عند المقدرة”.
قال أبو الحسن الماوردي؛ أقضى فضاة عصره في أدب الدين والدنيا: (ص252):” قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ – كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ. وَحَدُ الْحِلْمِ ضَبْطُ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ”.
أَسْبَابُ الْحِلْمِ الْبَاعِثَةُ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ:
قال الماوردي :” وَأَسْبَابُ الْحِلْمِ الْبَاعِثَةُ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ عَشَرَةٌ:
أَحَدُهَا: الرَّحْمَةُ لِلْجُهَّالِ، وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مِنْ أَوْكَدِ الْحِلْمِ رَحْمَةُ الْجُهَّالِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلَامًا: “يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ”.
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: “إنْ كُنْت مَا قُلْت فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْت فَغَفَرَ اللَّهُ لَك”.
وَاغْتَاظَتْ عَائِشَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – عَلَى خَادِمٍ لَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: لِلَّ”هِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً”.
وَالثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الِانْتِصَارِ، وَذَلِكَ مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ وَحُسْنِ الثِّقَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَدَرْت عَلَى عَدُوِّك فَاجْعَلْ الْعَفْوَ شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: “لَيْسَ مِنْ الْكَرَمِ عُقُوبَةُ مَنْ لَا يَجِدْ امْتِنَاعًا مِنْ السَّطْوَةِ”.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: “أَحْسَنُ الْمَكَارِمِ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ، وُجُودُ الْمُفْتَقِرِ”.
وَالثَّالِثُ: مِنْ أَسْبَابِهِ: التَّرَفُّعُ عَنْ السِّبَابِ وَذَلِكَ مِنْ شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ. كَمَا قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: “شَرَفُ النَّفْسِ أَنْ تَحْمِلَ الْمَكَارِهَ كَمَا تَحْمِلُ الْمَكَارِمَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى يَحْيَى – عَلَيْهِ السَّلَامُ – سَيِّدًا لِحِلْمِهِ”.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَبْلُغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كَرَمُوا
حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لِأَقْوَامِ
وَيَشْتُمُوا فَتَى الْأَلْوَانِ مُسْفِرَةً
لَا صَفْحَ ذُلٍّ وَلَكِنْ صَفْحَ أَحْلَامِ
وَالرَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ: الِاسْتِهَانَةُ بِالْمُسِيءِ وَذَلِكَ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ، مَا حُكِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ الْعِرَاقَ جَلَسَ يَوْمًا لِعَطَاءِ الْجُنْدِ وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَيْنَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَاهُ الزُّبَيْرُ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ: “أَوَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنِّي أُقِيدُهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ؟. فَلْيَظْهَرْ آمِنًا لِيَأْخُذَ عَطَاءَهُ مُوَفَّرًا، فَعَدَّ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مُسْتَحْسَنِ الْكِبْرِ”.
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الزُّعَمَاءِ فِي شِعْرِهِ:
أَوَكُلَّمَا طَنَّ الذُّبَابُ طَرَدْتُهُ
إنَّ الذُّبَابَ إذن عَلَيَّ كَرِيمُ
وَأَكْثَرُ رَجُلٌ مِنْ سَبِّ الْأَحْنَفِ وَهُوَ لَا يُجِيبُهُ فَقَالَ السابُّ: “وَاَللَّهِ مَا مَنَعَهُ مِنْ جَوَابِي إلَّا هَوَانِي عَلَيْهِ”، وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
نَجَا بِكَ لُؤْمُكَ مَنْجَى الذُّبَابِ
حَمَتْهُ مَقَاذِيرُهُ أَنْ يُنَالَا
وَأَسْمَعَ رَجُلٌ ابْنَ هُبَيْرَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: “إيَّاكَ أَعَنَى”، فَقَالَ لَهُ: “وَعَنْك أُعْرِضْ”، وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
فَاذْهَبْ فَأَنْتَ طَلِيقُ عِرْضِكَ إنَّهُ
عِرْضٌ عَزَزْتَ بِهِ وَأَنْتَ ذَلِيلُ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ:
إذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلَا تُجِبْهُ
فَخَيْرٌ مِنْ إجَابَتِهِ السُّكُوتُ
وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِهِ: الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ جَزَاءِ الْجَوَابِ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِيَانَةِ النَّفْسِ وَكَمَالِ الْمُرُوءَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: “مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ”.
قَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ:
وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ
تُرِقُّونَ مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ
أَغَرَّكُمْ أَنِّي بِأَحْسَنِ شِيمَةٍ
بَصِيرٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشِ أَخْرَقُ
وَإِنْ تَكُ قَدْ فَاحَشْتَنِي فَقَهَرْتَنِي
هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالْفُحْشِ أَحْذَقُ
وَالسَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِهِ: التَّفَضُّلُ عَلَى السِّبَابِ. فَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ وَحُبِّ التَّأَلُّفِ، كَمَا قِيلَ لِلْإِسْكَنْدَرِ: إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا يُنْقِصَانِك وَيَثْلُبَانِكَ فَلَوْ عَاقَبْتَهُمَا. فَقَالَ: هُمَا بَعْدَ الْعُقُوبَةِ أَعْذَرُ فِي تَنَقُّصِي وَثَلْبِي. فَكَانَ هَذَا تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَأَلُّفًا.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: “مَا عَادَانِي أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَخَذْت فِي أَمْرِهِ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إنْ كَانَ أَعْلَى مِنِّي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْت قَدْرِي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ”، فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ، فَنَظَمَهُ شِعْرًا فَقَالَ:
سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ
وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ
فَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ
شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ
وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ
وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا
أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ
وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا
تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ
وَالسَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ: اسْتِنْكَافُ السِّبَابِ وَقَطْعُ السِّبَابِ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْحَزْمِ، كَمَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: “وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً لَسَمِعْت عَشْرًا”، فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: “وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً”.
وَحُكِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ لِعَامِرِ بْنِ مُرَّةَ الزُّهْرِيِّ: مَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ؟ قَالَ: مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ. قَالَ: صَدَقْت، فَمَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ؟ قَالَ مَنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ الصَّمْتَ فِي عُقُوبَةِ الْجُهَّالِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: “مَا أَدْرَكْت أُمِّي فَأَبَرُّهَا، وَلَكِنْ لَا أَسُبُّ أَحَدًا فَيَسُبُّهَا”، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: “فِي إعْرَاضِك صَوْنُ أَعْرَاضِك”.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ لِلسَّفِيهِ عَنْ الْأَذَى
وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقَا
وَقَالَ آخَرُ:
قُلْ مَا بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ
حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ
وَالثَّامِنُ مِنْ أَسْبَابِهِ: الْخَوْفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَوَابِ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَرُبَّمَا أَوْجَبَهُ الرَّأْيُ وَاقْتَضَاهُ الْحَزْمُ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْحِلْمُ حِجَابُ الْآفَاتِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
اُرْفُقْ إذَا خِفْتَ مِنْ ذِي هَفْوَةٍ خَرَقًا
لَيْسَ الْحَلِيمُ كَمَنْ فِي أَمْرِهِ خَرَقُ
وَالتَّاسِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ: الرِّعَايَةُ لِيَدٍ سَالِفَةٍ، وَحُرْمَةٍ لَازِمَةٍ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْوَفَاءِ وَحُسْنِ الْعَهْدِ، وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: أَكْرَمُ الشِّيَمِ أَرْعَاهَا لِلذِّمَمِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الْوَفَاءَ عَلَى الْكَرِيمِ فَرِيضَةٌ
وَاللُّؤْمُ مَقْرُونٌ بِذِي الْإِخْلَافِ
وَتَرَى الْكَرِيمَ لِمَنْ يُعَاشِرُ مُنْصِفًا
وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَانِبَ الْإِنْصَافِ
وَالْعَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِهِ: الْمَكْرُ وَتَوَقُّعُ الْفُرَصِ الْخَلْفِيَّةِ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الدَّهَاءِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ:
مَنْ ظَهَرَ غَضَبُهُ قَلَّ كَيْدُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: “غَضَبُ الْجَاهِلِ فِي قَوْلِهِ، وَغَضَبُ الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ”، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: “إذَا سَكَتَّ عَنْ الْجَاهِلِ فَقَدْ أَوْسَعْتَهُ جَوَابًا وَأَوْجَعْتَهُ عِقَابًا”، وَقَالَ إيَاسُ بْنُ قَتَادَةَ:
تُعَاقِبُ أَيْدِينَا وَيَحْلُمُ رَأْيُنَا
وَنَشْتُمُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالتَّكَلُّمِ
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَلَلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمًا
أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِينَ يَشْتُمُ
وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ: “الْحَلِيمُ لا يعرف إلَّا فِي الْغَضَبِ”، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَتْ الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الرِّضَى
إنَّمَا الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الْغَضَبِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَنْ يَدَّعِي الْحِلْمَ أَغْضِبْهُ لِتَعْرِفَهُ
لَا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إلَّا سَاعَةَ الْغَضَبِ
تدبير الحلم والغضب:
قال الإمام الماوردي:” وَهَذَا التَّدْبِيرُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ بُدًّا مِنْ مُقَارَنَتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إطْرَاحِهِ وَمُتَارَكَتِهِ، إمَّا لِخَوْفِ شَرِّهِ أَوْ لِلُّزُومِ أَمْرِهِ. فَأَمَّا مَنْ أَمْكَنَ إطْرَاحُهُ وَلَمْ يَضُرَّ إبْعَادُهُ، فَالْهَوَانُ بِهِ أَوْلَى وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَصْوَبُ، فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ اسْتَفَادَ بِتَحْرِيكِ الْغَضَبِ فَضَائِلَهُ وَأَمِنَ بِكَفِّ نَفْسِهِ عَنْ الِانْقِيَادِ لَهُ رَذَائِلَهُ، وَصَارَ الْحِلْمُ مُدَبِّرًا لِلْأُمُورِ الْمُغْضِبَةِ بِقَدْرٍ لَا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ بِعَدَمِ الْغَضَبِ، وَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ بِفَقْدِ الْحِلْمِ، وَلَوْ عَزَبَ عَنْهُ الْحِلْمُ حَتَّى انْقَادَ لِغَضَبِهِ ضَلَّ عَنْهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهِ، وَضَعُفَ رَأْيُهُ عَنْ خِيرَةِ أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ، حَتَّى يَصِيرَ بَلِيدَ الرَّأْيِ، مَغْمُورَ الرَّوِيَّةِ، مَقْطُوعَ الْحُجَّةِ، مَسْلُوبَ الْعَزَاءِ، قَلِيلَ الْحِيلَةِ، مَعَ مَا يَنَالُهُ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَجَسَدِهِ حَتَّى يَصِيرَ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِمَّا غَضِبَ لَهُ.
تسكين الغضب
وَاعْلَمْ أَنَّ لِتَسْكِينِ الْغَضَبِ إذَا هَجَمَ أَسْبَابًا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحِلْمِ مِنْهَا: أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى الْخَوْفِ مِنْهُ، وَيَبْعَثُهُ الْخَوْفُ مِنْهُ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ، فَيَرْجِعُ إلَى أَدَبِهِ وَيَأْخُذُ بِنَدْبِهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ الْغَضَبُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]
قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي إذَا غَضِبْتَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} [فصلت: 36].
وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَنْزَغَنَّكَ أَيْ يُغْضِبَنَّكَ، فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَعْنِي أَنَّهُ سَمِيعٌ بِجَهْلِ مَنْ جَهِلَ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْك الْغَضَبَ.
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْفُرْسِ كَتَبَ كِتَابًا وَدَفَعَهُ إلَى وَزِيرٍ لَهُ وَقَالَ: إذَا غَضِبْتُ فناولنيه؛ وَكَانَ فِيهِ: مَا لَك وَالْغَضَبُ إنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ، ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْك مَنْ فِي السَّمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ ذَكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْ قُدْرَتَهُ فِي ظُلْمِ عِبَادِ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ للرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَسْأَلُك بِاَلَّذِي أَنْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَذَلُّ مِنِّي بَيْنَ يَدَيْك، وَبِاَلَّذِي هُوَ أَقْدَرُ عَلَى عِقَابِك مِنْك عَلَى عِقَابِي لَمَا عَفَوْتَ عَنِّي. فَعَفَا عَنْهُ لَمَّا ذَكَّرَهُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْقَسْوَةَ فَقَالَ: اطَّلِعْ فِي الْقُبُورِ وَاعْتَبِرْ بِالنُّشُورِ» .
وَكَانَ بَعْضُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ إذَا غَضِبَ أُلْقِيَ عِنْدَهُ مَفَاتِيحُ تُرَبِ الْمُلُوكِ فَيَزُولُ غَضَبُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إلَى حَالَةٍ غَيْرِهَا، فَيَزُولُ عَنْهُ الْغَضَبُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالتَّنَقُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. وَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ الْمَأْمُونِ إذَا غَضِبَ أَوْ شُتِمَ.
وَكَانَتْ الْفُرْسُ تَقُولُ: إذَا غَضِبَ الْقَائِمُ فَلْيَجْلِسْ وَإِذَا غَضِبَ الْجَالِسُ فَلْيَقُمْ. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْغَضَبُ مِنْ النَّدَمِ وَمَذَمَّةِ الِانْتِقَامِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: “الْغَضَبُ عَلَى مَنْ لَا تَمْلِكُ عَجْزٌ، وَعَلَى مَنْ تَمْلِكُ لُؤْمٌ”،وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: “إيَّاكَ وَعِزَّةَ الْغَضَبِ فَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى ذُلِّ الْعُذْرِ”، وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَإِذَا مَا اعْتَرَتْك فِي الْغَضَبِ الْعِزَّةُ
فَاذْكُرْ تَذَلُّلَ الِاعْتِذَارِ
وَمِنْهَا: أَنْ يَذْكُرَ ثَوَابَ الْعَفْوِ، وَجَزَاءَ الصَّفْحِ، فَيَقْهَرُ نَفْسَهُ عَلَى الْغَضَبِ رَغْبَةً فِي الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، وَحَذَرًا مِنْ اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَقُمْ. فَيَقُومُ الْعَافُونَ عَنْ النَّاسِ. ثُمَّ تَلَا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[الشورى: 40]
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فِي أُسَارَى ابْنِ الْأَشْعَثِ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاك مَا تُحِبُّ مِنْ الظَّفَرِ فَأَعْطِ اللَّهَ مَا يُحِبُّ مِنْ الْعَفْوِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: «الْخَيْرُ ثَلَاثُ خِصَالٍ فَمَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ: مَنْ إذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ، وَإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ مِنْ حَقٍّ، وَإِذَا قَدَرَ عَفَا» .
وَأَسْمَعَ رَجُلٌ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَلَامًا فَقَالَ عُمَرُ: أَرَدْتَ أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ لِعِزَّةِ السُّلْطَانِ فَأَنَالُ مِنْك الْيَوْمَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا انْصَرِفْ رَحِمَك اللَّهُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَذْكُرَ انْعِطَافَ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ، وَمَيْلَ النُّفُوسِ إلَيْهِ، فَلَا يَرَى إضَاعَةَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَرْغَبُ فِي التَّأَلُّفِ وَجَمِيلِ الثَّنَاءِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا ازْدَادَ أَحَدٌ بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، فَاعْفُوا يُعِزُّكُمْ اللَّهُ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ، وَلَا مِنْ شُرُوطِ الْكَرَمِ إزَالَةُ النِّعَمِ.
وَقَالَ الْمَأْمُونُ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ: إنِّي شَاوَرْتُ فِي أَمْرِك فَأَشَارُوا عَلَيَّ بِقَتْلِك، إلَّا أَنِّي وَجَدْتُ قَدْرَك فَوْقَ ذَنْبِك فَكَرِهْتُ الْقَتْلَ لِلَازِمِ حُرْمَتِك. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْمُشِيرَ أَشَارَ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي السِّيَاسَةِ، إلَّا أَنَّك أَبَيْت أَنْ تَطْلُبَ النَّصْرَ إلَّا مِنْ حَيْثُ عَوَّدَتْهُ مِنْ الْعَفْوِ فَإِنْ عَاقَبْت فَلَكَ نَظِيرٌ، وَإِنْ عَفَوْتَ فَلَا نَظِيرَ لَك. وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَعْفُو بِعَدْلٍ وَتَسْطُو إنْ سَطَوْتَ بِهِ
فَلَا عَدِمْنَاكَ مِنْ عَافٍ وَمُنْتَقِمِ
مسك الختام
قال شيخنا وصديقنا الحبيب د. أحمد عبد العزيز الحداد – كبير المفتين ومدير إدارة الإفتاء في دبي- حفظه الله- في مقال جميل عن الحلم: “الحلم سيد الأخلاق، لا يتحلى به أحد إلا عظم قدره، ونبل أمره، وكان بين قومه كالشامة، وعلى عشيرته علامة”.
زر الذهاب إلى الأعلى