لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، فإذا قلنا صلى فلان على فلان، أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية، إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له: اللهم صل عليه، فلهذا السبب اختلف المفسرون، فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: معناه ادع لهم، قال الشافعي رحمه الله: والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله في ما أعطيت وبارك لك في ما أبقيت، وقال آخرون: معناه أن يقول اللهم صل على فلان، ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
وقد نقل القاضي في «تفسيره» عن أبي القاسم الكعبي في «تفسيره» أنه قال عليٌّ لعمر وهو مسجى: عليك الصلاة والسلام.
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر ذلك؛ قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام، على أن أصحابنا [يقصد الشافعية] يمنعون من ذكر صلوات الله عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول، والشيعة يذكرونه في علي وأولاده، واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة، فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي الله عنهم؟، ورأيت بعضهم قال: أليس أن الرجل إذا قال: سلامٌ عليكم، يقال له: وعليكم السلام؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام؟. قال القاضي: إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، والدليل عليه أنهم قالوا: يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال على وجه التعليم قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».
ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي، فيتناول عليا ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم. والله أعلم.
قال الفخر الرازي: “وكنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم، فقلت: إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم، فقوله: سلام عليكم؛ مبتدأ وهو نكرة، وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز، قالوا لأن الإخبار إنما يفيد إذا أخبر على المعلوم بأمر غير معلوم، إلا أنهم قالوا: النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}. [البقرة: 221]” .
إذا عرفت هذا فههنا وجهان:
الأول: أن التنكير يدل على الكمال، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] والمعنى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة.
إذا ثبت هذا فقوله: «سلام» لفظة منكرة، فكان المراد منه سلام كامل تام، وعلى هذا التقدير: فقد صارت هذه النكرة موصوفة، فصح جعلها مبتدأ، وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله: «عليكم» والتقدير: سلام كامل تام عليكم.
والثاني: أن يجعل قوله: «عليكم» صفة لقوله: «سلام» فيكون مجموع قوله: «سلام عليكم» مبتدأ ويضمر له خبر، والتقدير: سلام عليكم واقع كائن حاصل، وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام، والسبب فيه ما قاله سيبويه؛ إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى، فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل، وأيضا فقوله: «وعليكم السلام» يفيد الحصر، فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصا بك ومحصورا فيك امتثالا لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}. [النساء: 86]. ومن لطائف قوله: «سلام عليكم» أنها أكمل من قوله: «السلام عليك» وذلك لأن قوله: «سلام عليك» معناه: سلام كامل تام شريف رفيع عليك. وأما قوله: السلام عليك، فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام، وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية، واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية، فكان قوله: «سلام عليك» أكمل من قوله: «السلام عليك» ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ «السلام» من الله تعالى ورد على سبيل التنكير، كقوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ}. [الأنعام: 54]، وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وفي القرآن من هذا الجنس كثير.
أما لفظ «السلام» بالألف واللام، فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام، كقول موسى عليه السلام: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}. [طه:47] وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}. [مريم: 15] وهذا السلام من الله تعالى، وفي قصة عيسى عليه السلام قال: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33] وهذا كلام عيسى عليه السلام. فثبت بهذه الوجوه أن قوله: «سلام عليك» أكمل من قوله: «السلام عليك» فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله: سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير، ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات، واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق، أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر؟ فمنهم من قال: الأصل فيها الشر، وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان، بل نزيد ونقول: إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان، والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنسانا يعدو إليه مع أنه لا يعرفه، فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه، ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر، وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه، بل قالوا: هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات، فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه، فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف، لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير، ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي، وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين، فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول، فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية، علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر.
إذا ثبت هذا فنقول: دفع الشر أهم من جلب الخير، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد.
الثاني: أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع، أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع، لأن الأول فعل والثاني ترك، وفعل ما لا نهاية له غير ممكن، أما ترك ما لا نهاية له ممكن.
الثالث: أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر، وذلك يوجب حصول الألم والحزن، وهو في غاية المشقة، وأما إذا لم يحصل أيضا إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر، بل على السلامة الأصلية، وتحمل هذه الحالة سهل. فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير، وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليّات، وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة، وموجب الفطرة، منشأ للشرور، وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يُعَرِّفَه أنه منه في السلامة والأمن والأمان، فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام، وهو أن يقول «سلام عليكم» ومن لطائف قولنا «سلام عليكم» أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة، والأمر كذلك بحسب العقل، وبحسب الشرع.
أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}. [الانفطار: 10، 11]، والعقل أيضا يدل عليه، وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة، فبعضها أرواح خيرة عاقلة، وبعضها كدرة خبيثة، وبعضها شهوانية، وبعضها غضبية، ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية، وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب، وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات، تارة في اليقظة، وتارة في النوم. وأيضا الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية. يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة، وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوبا بتلك الأرواح المجانسة له، فقوله: «سلام عليكم» إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية. ومن لطائف هذا الباب أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة، وقويت وتجردت، ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة، فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه؛ فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة والأنبياء، ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة، والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة، حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب، فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها، ويقوي روحه بمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم. إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره: «سلام عليكم» حدث بينهما تعلق شديد، وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار.