مقالات

وقفات مع المتنبي (44) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

فلسفةُ الحِلْم (ج2) (حُلماءُ العَرب)  

 

د. أحمد الزبيدي

 

ذكر الإمام أبو عبيدة في كتابه “الديباج” (ج1ص20) ، حلماءَ العرب؛ فقال: قيس بن عاصم المنقري، والأحنف بن قيس السعدي، ومعاوية ابن أبي سفيان، وأسماء بن خارجة الفزاري، وعامر بن شراحيل الشعبي، وسوار بن عبد الله العنبري.

قلت: وأكثرهم شهرة معاوية بن أبي سفيان، ثم الأحنف بن قيس، أما قيس بن عاصم المنقري، وأسماء بن خارجة الفزاري، وعامر بن شراحيل الشعبي، وسوار بن عبد الله العنبري فلم يشتهروا شهرتهما، رضي الله عنهم جميعا.

أول ما نبدأ الحديث عنه هو الصحابي قيس بن عاصم المنقري -رضي الله تعالى عنه.

كُنيتهُ: أبو علي؛ أحد أمراء العرب وعقلائهم وفرسانهم، الموصوفين بالحِلم والحكمة والشجاعة، كان شاعرًا، اشتهر وسادَ في الجاهلية، وهو ممن حَرّم على نفسه الخمر فيها، ووفد على النبي ﷺ في وفد تميم (سنة 9 هـ فأسلم، وقال النبي ﷺ لما رآه: هذا سيد أهل الوبر! واستعمله على صدقات قومه، ثم نزل البصرة في أواخر أيامه، وروى أحاديث. وتوفي بها (نحو 20 هـ).

قيل له : صف نفسك، فقال: أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولاحُمتُ على تُهمة، ولم أُرَ إلا في خيل مغيرة، أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة، وأما في الإسلام فقد قال الله تعالى (ولا تزكوا أنفسكم).

خبر إسلامه

قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ لِي: «اغْتَسِلْ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِظْنَا عِظَةً نَنْتَفِعُ بِهَا، فَقَالَ: «يَا قَيْسُ إِنَّ مَعَ الْعِزِّ ذُلا، وَإِنَّ مَعَ الْحَيَاةِ مَوْتًا، وَإِنَّ مَعَ الدُّنْيَا آخِرَةً، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا؛ وَإِنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَابًا، وَإِنَّ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ عِقَابًا، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابًا، وَإِنَّهُ لا بُدَّ لَكَ يَا قَيْسُ مِنْ قَرِينٍ يُدْفَنُ مَعَكَ وَهُوَ حَيٌّ، وَتُدْفَنُ مَعَهُ وَأَنْتَ مَيِّتٌ، فَإِنْ كَانَ كَرِيمًا أَكْرَمَكَ، وَإِنْ كَانَ لَئِيمًا أَسْلَمَكَ، ثُمَّ لا يُحْشَرُ إِلا مَعَكَ، وَلا تُبْعَثُ إِلا مَعَهُ، وَلا تُسْئَلُ إِلا عَنْهُ، فَلا تَجْعَلْهُ إِلا صَالِحًا فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صَالِحًا لَمْ تَأْنَسْ إِلا بِهِ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا لَمْ تَسْتَوْحِشْ إِلا مِنْهُ، أَلا وَهُوَ فِعْلُكَ”.

وَرُوِيَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اتْلُ عَلَيَّ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ سُورَةَ (الرَّحْمَنِ) فَقَالَ: أَعِدْهَا، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَحَلَاوَةً، وَ إن أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَأَعْلَاهُ لمُثْمِرٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ”.

وصيته لأولاده

قال المُبرد في كتابه “الكامل” (ج1 ص170): “كان لقيس 33 ولدًا قال لهم في مرض موته: “يا بني احفظوا عني ثلاثًا؛ فلا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا مت فسودوا كباركم ولا تسودوا صغاركم؛ فيحقر الناس كباركم وتهونوا عليهم، وعليكم بحفظ المال فإنه منبهة للكريم ويستغني به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل”.

وذكر الجاحظ في “البيان والتبيين” (ج1 ص66): “قال قيس بن عاصم لولده: «لا تَغْشَ السلطان حتى يَمَلَّك، ولا تقطعه حتى ينساك، ولا تجلس له على فراش ولا وِساد، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين، فإنه عسى أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك فتقام له، فيكون قيامك زيادة له، ونقصانا عليك».               وفي تفسير القرطبي (ج3 ص 56):    ” وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ شَرَّابًا للخمر فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ غَمَزَ عُكْنَةَ ابْنَتَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ[العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنًا] وَسَبَّ أَبَوَيْهِ، وَرَأَى الْقَمَرَ فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، وَأَعْطَى الْخَمَّارَ كَثِيرًا مِنْ مَالِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهَا يَقُولُ:

رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا

خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا

فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا

وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا

وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي

وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا

فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيَهَا

وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا

وقد ذكره ابن أبي الدنيا في “الإشراف في منازل الأشراف” (ص233)قال.. :   ” حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: قَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ:

إِنِّي امْرُؤٌ لَا شائن حَسَبِي

دَنَسٌ يُغَيِّرُهُ وَلَا أَفْنُ

مِنْ مِنْقَرٍ فِي بَيْتِ مَكْرُمَةٍ

وَالْغُصْنُ يَنْبُتُ حَوْلَهُ الْغُصْنُ

خُطَبَاءُ حِينَ يَقُومُ قَائِلُهُمْ

 بِيضُ الْوُجُوهِ مَسَاقِعُ لُسْنُ

لَا يَفْطُنُونَ لِعَيْبِ جَارِهِمْ

وَهُمْ لِحُسْنِ جِوارِهِ فُطْنُ

فائدة: وممن حرمها على نفسه في الجاهلية قبل أن يحرمها الإسلام كثير، أشرفهم أبو بكر الصديق، وعثمان رضي الله عنهما.

قال عثمان رضي الله عنه: ” إني رأيتها تُذهب العقل جملة، وما رأيت شيئاً يذهب جملة ويعود جملة “.

حِلْمه

في “المجالسة” (ج3ص165):” قِيلَ لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ الْحِلْمَ؟ قَالَ: مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ، لَقَدِ اخْتَلَفْنَا إِلَيْهِ فِي الْحِلْمِ كَمَا نَخْتَلِفُ إِلَى الْفُقَهَاءِ فِي الْفِقْهِ. بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ بِفِنَائِهِ مُحْتَبٍ بِكِسَائِهِ؛ أَتَتْهُ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ مَقْتُولٌ ومكتوف، فقالوا: هَذَا ابْنُكَ قَتَلَهُ ابْنُ أَخِيكِ. فَوَ اللهِ! مَا حَلَّ حَبْوَتَهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَحْشِدِ، فَقَالَ: قُمْ؛ فَأَطْلِقْ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ، وَوَارِ أَخَاكَ، وَاحْمِلْ إِلَى أُمِّهِ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ؛ فَإِنَّهَا غَرِيبَةٌ. وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

إِنِّي امْرُؤٌ لَا شَائِنٌ حَسَبِي

دَنَسٌ يُعَيِّرُهُ وَلَا أَفَنُ

وذكر الأبيات…

وفي رواية أخرى: قِيلَ لِلأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: “مَنْ حَلَّمَكَ؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْحِلْمَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ المنقري، ..”.

ذكر الطُرطوشي في “سراج الملوك” (ص146):”وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت حسن الخلق؟ فقال: من قيس بن عاصم المنقري، قال بينما هو ذات يوم جالس في داره إذ جاءته خادم له بسفود عليه شواء حار، فسقط من يدها فوقع على ابن له فمات فدهشت الجارية فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله تعالى!

وأد البنات:

ذكروا أن أول من وأد البنات من العرب هو قيس بن عاصم المنقري التميمي لأنه خشي أن يخلف على بناته من هو غير كفْ لهن وكان قد وأد ثماني بنات .

  • قال: القلقشندي في “صبح الأعشى” (جـ 1 صـ 404) : “إن العرب كانت تئد البنات خشية العار، وممن فعل ذلك قيس بن عاصم المنقري؛ وكان من وجوه قومه، ومن ذوي المال، وسببه: أن النعمان بن المنذر غزا بني تميم بجيش، فقام الجيش فسبوا ذراريهم فأنابه القوم وسألوه أن يحرر أسراهم فخيَّرَ (النعمان) النساء الأسيرات فمنهن من اختارت أباها فردَّها لأبيها، ومن اختارت زوجها فردَّها لزوجها، فاخترن آباءهن و أزواجهن إلا امرأة قيس بن عاصم فاختارت الذي أسرها فأقسم قيس أنه لا يولد له ابنة إلا قتلها فكان يقتلهن.

ذكر سعيد حوى في كتابه “أساس السنة” (ج4ص 2094):” عن النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول وسئل عن هذه الآية {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} فقال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية، فقال “أعتق عن كل واحدة منهن رقبة” قال: إني صاحب إبل، قال “اهد إن شئت عن كل واحدة منهن بدنة”.

والنهي عن قتل الأولاد يشمل البنات ولكن القرآن ذكر النهي عن قتل البنات {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (9) ” لأن قتلهن كان الأكثر.

  • فائدة: اشتهر قبل الإسلام – جدُّ الفرزدق -صعصعة- بأنَّه كان يشتري أيَّ بنت يراد وأدها ويفديها حتى فدى ثلاثمائة موؤدة. وكان الفرزدق يفخر بجدِّه!

وجَدِّي الَّذِي مَنعَ الوَائدات

 فأحيا الوئيدَ فَلم توأد

من شعره

قَالَ قيس بن عَاصِم المِنقري وتروى لمسكين الدرامي:

أَخَاك أَخَاك إِنّ من لَا أخاله

كساع إِلَى الهيجا بِغَيْر سلَاح

وقَال :

إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالتَمِسِي لَهُ

أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكِلُهُ وَحْدِي

قَصِيًّا كَرِيمًا أَوْ قَرِيبًا فَإِنَّنِي

أَخَافُ مَلامَاتِ الأحَادِيثِ مِنْ بَعْدِي

وفي “لسان العرب” لابن منظور (ج1ص91):” قَالَ قَيْسُ بْنُ عاصِم المِنْقَرِي وأَخَذ صَبِيّاً مِنْ أُمِّه يُرَقِّصُه، وأُمُّه مَنْفُوسةُ بِنْتُ زَيْدِ الفَوارسِ، والصبيُّ هُوَ حُكيم ابْنُهُ:

أَشْبِهْ أَبا أُمِّكَ، أَو أَشْبِهْ حَمَلْ

وَلَا تَكُونَنَّ كهِلَّوْفٍ وَكَلْ

يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِه قَدِ انْجَدَلْ

وارْقَ إِلَى الخَيْراتِ، زَنْأً فِي الجَبَلْ

الهِلَّوْفُ: الثَّقِيلُ الْجَافِي العَظِيمُ اللِّحْيةِ. والوَكَلُ: الَّذِي يَكِلُ أَمْرَه إِلَى غَيره.  قَالَ: وَقَالَتْ أُمه تَرُدُّ عَلَى أَبيه:

أَشْبِه أَخِي، أَو أَشْبِهَنْ أَباكَا

أَمَّا أَبِي، فَلَنْ تَنالَ ذَاكا،

تَقْصُرُ أَنْ تَناله يَدَاكَا

وله أيضاً:

وكم مِنْ حَصانٍ قد حَوَيْنا كَريمةٍ

ومِنْ كاعبٍ لم تَدْرِما البؤسُ مُعْصِرِ

خبره مع امرأته:

  • أسلم قيس بن عاصم المنقري وعنده امرأة من بني حنيفة، فلم تسلم معه وطالبته بالفرقة ففارقها، فلما احتملت لتلحق بأهلها قال لها قيس: أما والله لقد صحبتني سارّة، ولقد فارقتني غير عارّة، لا صحبتك مملولة، ولا أخلاقك مذمومة، ولولا أمر الله ما فرّق بيننا إلّا الموت، ولكنّ أمر الله ورسوله أحقّ أن يطاع. فقالت له: أبنت عن حسبك وفضلك، وأنت والله كنت الدائم المحبة، الكثير المقة، القليل اللائمة، المعجب الخلوة، البعيد النبوة، لتعلمنّ أني لا أسكن إلى زوج بعدك.

وصيته

جاء في “المستدرك على الصحيحين” لمؤلفه أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (6565): “عن عبد الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سَوِيَّةَ الْمِنْقَرِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ يُوصِي فَجَمَعَ بَنِيهِ وَهُمُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ ذَكَرًا، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ إِذَا أَنَا مُتُّ فَسَوِّدُوا أَكْبَرَكُمْ تَخْلُفُوا آبَاءَكُمْ، وَلَا تُسَوِّدُوا أَصْغَرَكُمْ فَيَزْرِي بِكُمْ ذَاكَ عِنْدَ أَكْفَائِكُمْ وَلَا تُقِيمُوا عَلَيَّ نَائِحَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنِ النِّيَاحَةِ» ، وَعَلَيْكُمْ بِإْصْلَاحِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ مَنْبَهَةٌ لِلْكَرِيمِ وَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ اللَّئِيمِ، وَلَا تُعْطُوا رِقَابَ الْإِبِلِ فِي غَيْرِ حَقِّهَا، وَلَا تَمْنَعُوهَا مِنْ حَقِّهَا، وَإِيَّاكُمْ وَكُلَّ عِرْقِ سُوءٍ فَمَهْمَا يَسُرُّكُمْ يَوْمًا، فَمَا يَسُوءُكُمْ أَكْبَرُ وَاحْذَرُوا أَبْنَاءَ أَعْدَائِكُمْ، فَإِنَّهُمْ لَكُمْ أَعْدَاءٌ عَلَى مِنْهَاجِ آبَائِهِمْ، وَإِذَا أَنَا مُتُّ فَادْفِنُونِي فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَمَاشَاتٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ يَنْبِشُونِي مِنْ قَبْرِي فَتُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ دُنْيَاهُمْ وَيَفْسِدُوا عَلَيْكُمْ آخِرَتَكُمْ، ثُمَّ دَعَا بِكِنَانَتِهِ فَأَمَرَ ابْنَهُ الْأَكْبَرَ، وَكَانَ يُسَمَّى عَلِيًّا، فَقَالَ: أَخْرِجْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: اكْسَرْهُ فَكَسَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَخْرِجْ سَهْمَيْنِ فَأَخْرَجَهُمَا، فَقَالَ: اكْسَرْهُمَا فَكَسَرَهُمَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ كَسْرَهُمَا، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ هَكَذَا أَنْتُمْ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ فِي الْفُرْقَةِ» ، ثُمَّ أَنْشَأَ، يَقُولُ:

إِنَّمَا الْمَجْدُ مَا بَنَي وَالِدِ الصِّدْق

وَأَحْيَا فِعَالَهُ الْمَوْلُودُ

وَكَفَى الْمَجْدَ وَالشَّجَاعَةَ وَالْحِلْمَ

إِذَا زَانَهُ عَفَافٌ وَجُودٌ

وَثَلَاثُونَ يَا بَنِيَّ إِذَا مَا

قد عَقَدْتُمْ لِنَائِبَاتِ الْعُهُودِ

كَثَلَاثِينَ مِنْ قِدَاحٍ إِذَا مَا

شَدَّهَا لِلزَّمَانِ عَقْدٌ شَدِيدُ

لَمْ تُكَسَّرْ وَإِنْ تَقَطَّعَتِ الْأَسْهُمِ

أَوْدَى بِجَمْعِهَا التَّبْدِيدُ

وَذُوو السِّنِّ وَالْمَرْوَءةِ أَوْلَى

إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ لَهُمْ تَسْوِيدُ

وَعَلَيْكُمْ حَفِظَ الْأَصَاغِرِ حَتَّى

يَبْلُغَ الْحِنْثَ الْأَصْغَرَ الْمَجْهُودُ”

  • وفي “إصلاح المال” لابن أبي الدنيا (ص35):” عَنِ الْحَسَنِ , أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيَّ , قَالَ لِبَنِيهِ: «إِيَّاكُمْ وَالْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّهَا آخِرُ كَسْبِ الْمَرْءِ , إِنَّ امْرَأً لَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ إِلَّا تَرَكَهُ كَسْبُهُ , وَعَلَيْكُمْ بِالْمَالِ فَاسْتَصْلِحُوهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْبَهَةٌ لِلْكَرِيمِ , وَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ اللَّئِيمِ»

  • وَفِي “شُروح الفَصيح” أَن قَيْس بنِ عاصمٍ المِنْقَرِيِّ فِي وصَيَّةِ كتب بهَا إِلى طَيِّيءٍ (: لَا تَسُبوا الإِبِلَ فإِنَّ فِيها رَقُوءَ الدَّمِ) ومَهْرَ الكَرِيمَةِ، وبأَلْبَانِهَا يُتْحَف الكَبيرُ ويُغَذَّى الصغيرُ، وَلَو أَن الإِبلَ كُلِّفَت الطَّحْنَ لطَحَنَتْ (أَي) أَنها (تُعْطَى فِي الدِّيَاتِ) بَدَلاً من القَوَدِ (فتُحْقَنُ) بهَا الدِّمَاءُ أَي يَسْكُن بهَا الدَّمُ.

رثاؤه

قال المُخَبَّلِ السعديِّ يَرْثِيه:

أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيدَهَا

وَفَارِسَهَا فِي الدَّهْرِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ

فقولُه: «أَضَلَّتْ» يعنِي: دَفَنَتْ. ومن هذا المعنَى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَاضْمَحَلَّ.

  • وقال عبدة بن الطيب في رثائه في “العقد الفريد” (ج1ص275) : “

وما كان قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ

ولكنّهُ بنيانُ قومٍ تهدّمَا

قال أبو عمر بن العلاء والأصمعي: “هذا أرثى بيتٍ قالته العرب”، وقال ابن الأعرابي: “هو قائم بنفسه، ماله نظير في الجاهلية ولا الإسلام”.

       وقد سَلَخَهُ أَبُو هِلالٍ العَسْكَرِيُّ فَقَالَ :

       وَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ

       وَلَكِنَّهُ بِنْيَانُ قَوْمٍ تَصدَّعَا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى