أخبار
وقفات مع المتنبي (45) د. أحمد الزبيدي – الإمارات
"حُلماءُ العَرب" (ج2) الأحنف بن قيس التميمي (3 ق هـ - 72 هـ)


الأحنف بن قيس بن معاوية، أبو بحر: سيد تميم، وأحد العظماء، الدهاة، الفصحاء، الشُجعان، الفاتحين. يضرب به المثل في الحِلم والذكاء . ولد في البصرة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، ووفد على الخليفة عمر في المدينة، فاستبقاه عمر عامًا، ثم أذن له فرجع إلى البصرة.
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: “أما بعد فأدنِ الأحنف وشاوره واسمع منه إلخ…”
وشهد الفتوح في خراسان، واعتزل الفتنة يوم الجمل، وشهد صفين مع عليّ، ولما انتظم الأمر لمعاوية عاتبه، فأغلظ له الأحنف في الجواب، فسئل معاوية عن صبره عليه، فقال: “هذا الّذي إذا غضب غضبَ له مئة ألف لا يدرون فيم غضب”، وولي خراسان. وكان صديقًا لمصعب بن الزبير (امير العراق) فوقد عليه بالكوفة فتوفي فيها وهو عنده.
قال رجل ليحيى البرمكي: “أنت والله أحلم من الأحنف ابن قيس، فقال يحيى: ما يقرّب إلينا من أعطانا فوق حقنا”.
صفاته الخَلقِيَّة
وكان في رجله حنفٌ وهو الميل، فغلب عليه لقبه، وكانت أمه ترقصه وهو صغير، وتقول:
واللهِ لولا ضعفه من هزلهِ
وحنفٌ ودّقةٌ في رجله
ما كانَ في فتيانكم من مثلهِ
جاء في “إكمال تهذيب الكمال” (2/ 18):”وكان دميمًا، قصيرًا، كوسجًا أجدل، وهو بصري تابعي ثقة”.
وعن المدائني قال: “ليس السؤدد بالشرف، وقد ساد الأحنف بن قيس بحلمه”، وعن عبد الملك بن عمير، قال: “قدم علينا الأحنف بن قيس الكوفة، مع مصعب بن الزبير، فما رأيت خصلة تذم في رجل إلا وقد رأيتها فيه: كان صعل الرأس، أحجن الأنف، أغضف الأذن ، متراكب الأسنان، أشدق، مائل الذقن، ناتىء الوجنة، باخق العين ، خفيف العارضين، أحنف الرجلين، ولكنه كان إذا تكلم جلّى عن نفسه”.
وقد علق الأستاذ أحمد أمين على هذا فقال: ” ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بحظ، تنبو عن مَرْآه الأحداق، وتتفادى من شخصه الأبصار؛ وهو مع هذا سيد قومه، سيد تميم، وهي ما هي في العظمة، إن غَضِبَ غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيمَ غضب؛ خطير النفس، بعيد المرمى، ما زال يَسُود حتى بلغ مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة لا يتعلق بها دَرَك”.
وقال:” والسيادة أنواع؛ ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشركه فيها سيد آخر؛ فسيدٌ عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه، وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه؛ أما الأحنف فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالًا وثيقًا: أنه مُنِحَ نظرًا صائبًا يتعرف به المحاسن والمساوي، ومعالي الأمور وسفاسفها، وقَلَ أن يخطئ في ذلك؛ ثم مُنح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معالٍ ومحاسن مهما كلفه من مشقة، وحَمله من جهد؛ فلو علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه، وهي — كما ترى — نقطة ارتكاز تحمل فوقها كثيرًا من الفضائل، على حين أن نقطة الارتكاز عند كثير من الناس لا تحمل إلا فضيلة واحدة”.
وفي الجملة فإن سيرة وأخلاق الأحنف بن قيس قد ضُربت بها الأمثال، حتى قال شاعرهم:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياسِ
خطبه
قال د. شوقي ضيف في كتابه “تاريخ الأدب العربي” (ج2:ص434):” ونحن لا نقرأ خطبه التي كان يلقيها بين أيدى الخلفاء، حتى يروعنا منطقه، لقدرته على حوك الكلام، وتوشيته أحيانًا بالسجع وأساليب التصوير. ولم يكن يطيل في هذه الخطب، بل كان يعمد إلى الإيجاز والكلم القصار، فيبلغ بها كل ما يريد من حاجته وحاجة قومه.
وفد على معاوية مرة، فقال يصف أهل البصرة وما يؤملونه في الخليفة من مدّ يد العون والمساعدة: “يا أمير المؤمنين أهل البصرة عدد يسير ،وعظم كسير، مع تتابع من المحول واتصال من الذّحول ، فالمكثر فيها قد أطرق ، والمقلّ قد أملق، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويصفح عن الذّحول ويداوى المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء، ويزيل الّلأواء ، وإن السيد من يعمّ ولا يخصّ ومن يدعو الجفلى ، ولا يدعو النّقرى إن أُحسِن إليه شكر وإن أسئ إليه غفر، ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عمادًا يدفع عنها الملمات، ويكشف عنها المعضلات”.
وبمثل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز كان يقدّمه الخلفاء، ويبدو أن كلمته هذه فالها عقب حروب على ومعاوية، نتبين ذلك من خلال استعطافه وطلبه الصفح الجميل، دونما مساس بكرامته ومروءته.
ولا نكاد نقرأه إلا وتشدنا رجاحة عقله، وحدة خاطره، وسداد قلبه ولسانه، فهو لا يرسل كلامه على عواهنه، بل ما يزال يتمهل به، ويتروى فيه، حتى يصل إلى ما يريد! وربما ويصور ذلك تلك الكلمة التي ألقاها حين ادلّهم الخطب بعد وفاة “يزيد”، واصطدام الأزد بقبيلة تميم. يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه : “يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو. والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام، فإن استشرى شنآنكم وأبى حسك صدوركم ، ففي أموالنا وسعة أحلامنا لنا ولكم سعة”.
وما أن انتهى من كلمته حتى لكأنها نزلت عليهم بردًا وسلامًا، فأُغمدت السيوف وحقنت الدماء.
وعلى هذا النحو تصدِّق خطب الأحنف وسيرته فراسة ابن الخطاب فيه، إذ عدّه سيد قومه وخطيب مصره.
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: “خَطَبَ الأَحْنَفُ عِنْدَ عُمَرَ، فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ، فَقَالَ: كُنْتَ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مُنَافِقًا عَالِمًا، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنًا، فَانْحَدِرْ إِلَى مِصْرِكَ. قُلْتُ: مِصْرُهُ هِيَ الْبَصْرَةُ”.
وفي “تاريخ الإسلام” (فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ السَّيِّدُ).
أقواله
-
قال: خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودّة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها، وإن عثرت عضَّدَك، وإن احتجت إلى مؤونته رفَدَك. وقال الشاعر:
إنّ أخاك الصّدق من لن يدعك
ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك
شتّت شمل نفسه ليجمعك
-
وقال: “ثلاث ليس عندي فيهن أناة، الضيف إذا نزل بي أعجل له ما كان، والجنازة أن لا أحبسها، والأيم إذا عرضت لي رغبة أن أزوجها”.
قلت: “وينبغي لمن نزل به ضيف أن يعجل له من الطعام والشراب فإن ذلك من السنة”.
-
وكان الأحنف بن قيس يقول: “لا مروءة لكذوب، ولا سؤدد لبخيل، ولا ورع لسيىء الخلق”.
-
وقال:”لا راحة لحسود”.
-
وقال: “وما شاتمت رجلاً، ولا زحمت ركبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مجتدي حتى ينتح جبينه عرقاً كما ينتح الحميت، فو الله ما وصلته”.
-
وقال: “إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي”،
-
وقال: “ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة ؟ الخلق السجيح، والكف عن القبيح. ألا أخبركم بأدوإ الداء ؟ الخلق الدنيء، واللسان البذيء”، وقال: “كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة، ومن لزم شيئاً عرف به”.
-
وكتب الأحنف بن قيس إلى صديق له: “أما بعد فإذا قدم عليك أخ موافق لك، فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف”، وقال: “بئس الرفيقان؛ الدراهم والدنانير، فإنهما لا ينفعانك حتى يفارقاك”، و قال: “ربّ ملوم لا ذنب له”، وقال : “رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع؛ ولا في صدق إلا بنيّة”،وقال أيضاً : “أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل”، وقال: “أحقّ الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة”، وقال : “ما ادّخرت الآباء للأبناء، ولا أبقت الموتى للأحياء، شيئا أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب”، وقال : إن رأيت الشر يتركك إن تركته، فاتركه”،وقال: “ما قلّ سفهاء قوم قطّ إلا ذلّوا. ولأن يطيعني سفهاء قومي أحبّ إليّ من أن يطيعني حلماؤهم”، وقال: “أكرموا سفاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار”، وقال: “من فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، ومن غص بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه”،وقال: “لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم وتقلّدت السيوف وركبت الخيل، ولم تأخذها حميّة الأوغاد. قيل: وما حميّة الأوغاد؟ قال: أن يروا الحلم ذلًّا، والتّواهب ضيمًا”.
-
وذمّ رجل عند الأحنف بن قيس الكمأة بالسّمن، فقال عند ذلك الأحنف: «ربّ ملوم لا ذنب له».
-
وقال : “العقل خير قرين، والأدب خير ميراث، والتوفيق خير قائد”، وقال : “جنّبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل يكون وصّافًا لبطنه وفرجه”، وقال أيضًا: “ما دخلت بين أثنين قط حتى يكونا هما يدخلاني في أمرهما، ولا أقمت من مجلس قط، ولا حجبت عن باب يقول: لا أجلس إلاّ مجلسا أعلم أني لا أقام عن مثله، ولا اقف على باب أخاف أن أحجب عن صاحبه”، وقال : “يا معشر بني تميم، لا تسرعوا الى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال، أقلّهم حياء من الفرار”.
-
ويروى عن الأحنف بن قيس أنه كان يجالس رجلًا يطيل الصمت حتى أعجب به الأحنف، ثم إنّه تكلم فقال للأحنف: يا أبا بحر أتقدر أن تمشي على شرف المسجد؟ فعندها تمثل الأحنف بقول الشاعر:
وكائن ترى من صامتٍ لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلمِ
-
ودخل يومًا على معاوية بن أبي سفيان، فأشار له إلى الوساد فقال له: اجلس. فجلس على الأرض، فقال له معاوية: وما منعك يا أحنف من الجلوس على الوساد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن فيما أوصى به قيس بن عاصم المنقري ولده أن قال: «لا تغش السلطان حتى يملك، ولا تقطعه حتى ينساك، ولا تجلس له على فراش ولا وساد، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين، فإنه عسى أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك فتقام له، فيكون قيامك زيادة له، ونقصانا عليك» . حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين، لعله إن يأتي من هو أولى بذلك المجلس مني، فقال معاوية: «لقد أوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم» ، وأنشأ يقول:
يا أيها السائل عما مضى
وعلم هذا الزمن العائب
إن كنت تبغي العلم أو أهله
أو شاهدا يخبر عن غائب
فاعتبر الأرض بسكانها
واعتبر الصاحب بالصاحب
وقد مر معنا في المقال السابق أن الأحنف تعلم الحلم على قيس بن عاصم المنقري.
-
وفي كتاب “فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب” لابن المرزبان (ص36):” قال الأحنف بن قيس: إذا بصبص الكلبُ لك فثق بودٍّ منه ولا تثق ببصايص الناس فرُبَّ مبصبصٍ خوَّان”.